Hakadha Takallam Zaradusht
هكذا تكلم زرادشت: كتاب للكل ولا لأحد
Nau'ikan
إن زرادشت الجديد لم يجل في مسارح حلمه فاتحا لسريرته مجالات التفكير إلا وهو يحتفظ بانطباعات من تواريخ الأمم القديمة الوثنية، وبصور متناقضة من القوانين التي أبدعتها حكومات الغرب وجماعاته ونقاباته الصناعية والمالية فتمثلت هذه السنن أشباح ألواح تتراقص عليها ألوان البدع، فما وسع زرادشت إلا أن يثور عليها ويدعو أتباعه إلى تحطيمها.
أما اللوحان الأولان وكلمة عيسى بأن يعامل الإنسان أخاه بما يريد أن يعامله أخوه به والشريعة الأحمدية التي جاءت على أساس هذا المبدأ بخير الكليات تستنبط منها الأحكام لكل جماعة ولكل زمان، فإن زرادشت لم يبحثها مع أن نفسه كانت تصبو إليها لشعوره بوجودها وراء أقنعة النظم التي أسدلها الغرب على مجتمعاته، وإذ كان لم يتميزها فما ذلك إلا لأن دماغه كان يتصدع بما حشر فيه من فلسفة اليونان القديمة ومن مشاحنات أعلام عصره الذين شغلوا بالجدل والمماحكات المنطقية المجردة حتى أتوا بنظريات تورث الدوار وتبلبل الفكر فيضطر من ألم بها إلى نبذها جميعا؛ لأنها كدود القبور يلتهم بعضها البعض الآخر بعد أن تتغذى من جيفة لا حياة فيها. •••
وفي هذا الحلم يسير زرادشت هادما كل ناموس ونظام؛ لينبئ الناس بالخلود وبقاء الذات في وجود شبهه بالساعة الرملية ينقلب أبدا قسمها المفرغ لاستفراغ قسمها الممتلئ.
ولا يطمعن القارئ في الظفر من زرادشت بما يثبت هذه العقيدة الراسية على خلود مبهم وعودة أشد إبهاما؛ لأنه لن يظفر منه بغير صور يلمحها لمحا في بيان شعري يتلبس الفلسفة دون أن يكون فيه أثر لأي استقراء أو لأي تعليل فيخرج من استغراقه، وهو لا يدري أيقصد نيتشه من العودة المستمرة ما يتوهمه الملحدون من خلود الآباء في الأبناء، أم هو يرمي إلى عودة الشخصية بالذات ناسية ماضيها تاركة في كل مرحلة من مراحلها جثة تتلوها جثة على مدى الأحقاب.
لقد تمرد نيتشه أمام العدم كما قلنا، وخفيت عنه حقيقة الدين الذي أخذ به الغرب عن عيسى فأحاطه بالمعميات، كما خفيت عنه حقيقة ما أنزل على محمد فشوهه هذا الغرب بالافتراء والتشنيع تعصبا وجهلا، فوقف مفكرا جبارا لا يستسلم لفكرة العبث في غاية الكون ولا يرضى بالنظم الاجتماعية التي أوجدتها المدنية وأسندتها إلى الدين، وهكذا هب يطلب للإنسانية إلها منها يسودها وللأرض معنى أبديا يحول كل زوال فيها إلى خلود مستمر التجدد بين الخفاء والظهور في محدود غير محدود ...
ولو تسنى لنيتشه أن ينفذ حقيقة الإيمان الذي دعا عيسى إليه مكملا ما جاء به موسى لكان تجلى له إيمانا بالقوة ترفع الضعفاء لا بالضعف يسلط عليهم الأقوياء، ولو تسنى له أن يستنير بما جاء به الإسلام من مبادئ اجتماعية عملية عليا تماشي ما جاء به عيسى ولا تنقضه لأدرك أن في الدين الحق دستورا يهدم كل ما أراد هو هدمه من صروح الفساد في المجتمع ويوجد الإنسان المتصف بمكارم الأخلاق محبا للحياة والقوة والجمال والحرية، دون أن يكسر حلقة الإنسانية ويحاول الانطلاق منها، وهو لا يزال يلبس تراب الأرض ويرسف في أغلالها.
ولكن نيتشه باندفاعه إلى معارضة الفلاسفة من معاصريه وبثورته على التفكير الديني والتفكير المطلق في آن واحد؛ رأى أن التكامل لنوال عطف الألوهية الراسخة في الأذهان، والتخلص من عقابها الصارم؛ يقتضي الإعراض عن الزائلات والاستكانة إلى السلطة واعتبار العاطفة الجنسية ملطخة بأوضار الخطيئة الأصلية فثار على هذه الألوهية المزيفة التي عرفها الشرق في أي دور من أدوار وحيه، وهكذا كفر نيتشه بالله فأعلن موته واختناقه برحمته ...
هذا هو جحود نيتشه في تعاليم زرادشت، وهو في تقديرنا إذا نحن استنرنا بالدين الحق كما تدركه ذهنيتنا السامية جحود يتجه إلى غير الإله الواحد الأحد رب الناس أجمعين.
بل إننا إذا ذكرنا القاعدة المثلى التي وردت في حديث للنبي الكريم على قول أو في كلمة لأمير المؤمنين عمر على قول آخر، وهي: «اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا.»
إذا ذكرنا ذلك، يتضح لدينا أن نيتشه قد ذهب إلى أبعد مدى في الامتثال للوصية الأولى وقد فاتته الوصية الثانية وهي وصية راسخة في أرواح أبناء هذه البلاد الشرقية العربية، فليس إذن في عظات زرادشت ما يزعزع عقائدنا أو ينال من إيماننا، بل إن فيها ما يتمشى والمبادئ العليا التي اتخذها السلف الصالح أساسا لإقامة عظمة الدين على عظمة الحياة.
Shafi da ba'a sani ba