Haka aka Halicce ni
هكذا خلقت: قصة طويلة
Nau'ikan
خلوت بعد انصرافه إلى نفسي فقرأت قسيمة الطلاق، وأعدت قراءتها، وأخذت أفكر فيما يكون بعد أن بلغت غايتي، على أنني سرعان ما سألت نفسي: أينا انتصر بهذا الطلاق، أنا أم صديقتي؟ لقد كنت أراها بيني وبين زوجي، وهأنذي الآن نحيت نفسي فأصبحت وحدها معه، في ثيابها أو عارية كيوم ولدتها أمها، ألا تعسا لها فاتنة الرجال! نعم هي التي انتصرت، أما أنا فأصبحت وحيدة لا سند لي، أعيش من نفقة هذين الولدين ومما اقتصدت، وهانت علي عبرتي من جديد فأسلمت لعيني العنان، وخشيت أن يحضر طفلاي، وأن يرياني على هذه الحال فدخلت غرفة نومي، وأوصدت بابها، ودقت المربية الباب فناديتها من مضجعي: إنني متعبة، وطلبت إليها أن تدعني أستريح.
ولقد شعرت بنفسي متعبة مهدودة بالفعل، ورأيت بعد قليل أنني عاجزة عن التفكير، وكأن ذهني خلا من كل ما يشغله، وإن لم تطاوعني أعصابي إلى الهدوء الذي أبتغيه، فتناولت مسكنا أسرع بي إلى عالم النوم.
استيقظت صبح الغد وأنا أحسن حالا مما كنت، واستعدت حين صحوت ما دار بيني وبين صديقنا من حديث منذ أسبوع، وذكرت ما رواه على لسان مطلقي من أنه لم يحب صديقتي ولا يحب غيري، فخف علي العبء الذي أثقلني أمس، حين تصورت أن هذه المرأة انتصرت علي بطلاقي من زوجي، وشعرت بأن هذا الرجل المسكين قد أصبح بعد تطليقه إياي في عزلة تامة، لا يؤنسه أحد، ولا يؤنسه ولداه وهما بالإسكندرية معي.
وخرجت من غرفتي ألقى الطفلين، فلما قبلتهما ورأيتهما في صحتهما ونضارتهما ازددت هدوءا وطمأنينة، وذكرت صديقات لي مات أزواجهن وهن في ريعان شبابهن، وتركوا لهن صبية ضعافا، فكرسن حياتهن لأبنائهن، ثم سعدن بهم إذ رأينهم يكبرون بعنايتهن ورعايتهن، أما وقد رزقني الله هذين الصبيين الجميلين، فأي سعادة غيرهما أبغى؟ إن واجبي أن أكرس لهما حياتي، ولا أفكر في شيء سواهما لأراهما يكبران أمام ناظري فيصبحان فتى وفتاة ملء العين، ثم رجلا وامرأة يحملان عبء الحياة بأحسن وأسعد مما حملته.
وسكنت نفسي إلى هذا الخاطر، فضاعفت عنايتي بالصبيين، وشغلت بإدخالهما المدرسة، وعاهدت نفسي على أن أنقطع لهما ولمعاونتهما في دروسهما، وأن أنسى كل شيء فيهما، ففي ذلك هناءتي وحسن أداء واجبي في الحياة، وانقضت أيام وأنا على هذه الحال، لا أكاد أفكر في أبيهما، بل لا أكاد أفكر في نفسي، مؤمنة بأنهما أصبحا كل شيء في حياتي ، وبأن ما سواهما لم تبق له أية صلة بي.
وكان لذلك أثره الحسن في صحتي وطمأنينتي؛ أذكر إذ ذاك يوما جلست فيه إلى شاطئ البحر أرقب أمواجه، فمرت بخيالي صورة مطلقي وقد التقى بصديقتي ووقفا يتحدثان، لم تزعجني الصورة قط، بل هززت كتفي وقلت في نفسي: «ليس ذلك شأني، فهذا الرجل لم يبق زوجي، ولم يبق لي أن أحاسبه، لقد أصبح بطلاقي حرا كما أصبحت أنا بهذا الطلاق حرة، وكما أستطيع إن شئت أن أتزوج وأن أختار السيرة التي أرضاها فهو كذلك حر في أن يختار لون الحياة الذي يرضيه، وهذه المرأة حرة هي الأخرى، إن صح أن التقيا يوما فليفعلا ما يشاءان، حسبي سعادة بالطفلين، ولغيري أن يبحث عن سعادته كما يحب ويهوى.»
وبعد أسبوعين رأيت صديقنا يدخل عندي ويسألني بعد أن بادلني التحية: «أما فكرت من جديد في استئناف حياتك مع زوجك؟ لقد لقيته في المعادي منذ يومين فدعاني إليه وسألني: ألك في هذا الأمر رأي؟ ولما قلت له إنني لم أرك منذ أعطيتك قسيمة الطلاق، رجاني في زيارتك والتحدث إليك في الموضوع.» وأدهشني هذا الكلام، فقلت في حدة: «وهل تراني كنت أعبث يوم طلبت الطلاق، ذلك أمر لا رجعة فيه، ولا محل للحديث عنه.» قال: «الأمر في ذلك لك، وقد توقع هو أنك ستجيبين كما أجبت الآن، أما وقد صح تقديره فإنه يستأذنك في أن يرى ولديه، ولا يشك لحظة في أنك تأذنين.» وأجبت على الفور: «هذا حقه ولن أحرمه منه، لكن لي شرطا واحدا، ذلك ألا يراني ولا أراه، فإذا فكر في المجيء ليراهما فليخطرني بموعد حضوره، وعند ذلك أدع له البيت ليلقى طفليه فيه.» قال صديقنا: «أنا أشكرك بلسانه، وسيحضر في الأسبوع المقبل بأول قطار يغادر القاهرة يوم الجمعة، ثم يعود إليها بآخر قطار في اليوم نفسه.»
وانتقل صديقنا بعد ذلك بالحديث يسألني - وقد ذكرت له أنني لن أستأنف حياتي الزوجية مع مطلقي - عما اعتزمت أن أفعل بعد انقضاء عدتي، قلت: «لا شيء ، كرست حياتي لهذين الطفلين اللذين رزقني الله بهما، وأكبر ما أرجو أن يساعدني على القيام بواجبهما على نحو يرضيني، ويطمئن له قلبي.» قال صديقنا: «فليعاونك الله وليوفقك فيما تقصدين إليه.»
وفي يوم الجمعة الذي تلا هذا الحديث غادرت المنزل قبل موعد وصول قطار القاهرة إلى الإسكندرية، وقلت للمربية ساعة خروجي إنني سأتناول غدائي في الخارج، وذكرت لها أن والد الطفلين سيحضر ليراهما فلتبق معهما في البيت حين حضوره؛ حتى تنقل إلي عند عودتي ما يدور بينه وبينهما من حديث، فلما عدت ساعة المغيب ذكرت لي أن الدكتور حضر بعد قليل من مغادرتي المنزل، وأنه ما لبث حين رأى ولديه أن قبلهما وعانقهما طويلا وعيناه مغرورقتان، وأنه دعاهما ودعاها للتنزه ولتناول الغداء في مطعم على شاطئ البحر، وأن الصبيين كانا سعيدين بأبيهما كل السعادة، وأنهم قضوا جميعا يوما من أسعد الأيام وأمتعها، وأنه عاد معهم إلى المنزل، فلما حان موعد سفره ودع الصبيين في تقبيل وعناق تأثرت المربية لهما غاية التأثر، ثم أعطاها ساعة خروجه هدية قيمة هي ثلاث ساعات ذهبية، فلما سألته المربية عن الساعة الثالثة لمن تكون، قال إنها لأمهما، ثم وعد أن يزورنا في مثل موعده بعد أسبوعين، وقالت له بنتنا: ولم لا تزورنا كل أسبوع يا والدي؟ فأجابها بأنه يكون أسعد الناس بذلك إذا أذنت والدتك به.
وأخذت الساعات الثلاث وقلبتها في يدي فإذا هي هدية قيمة بالفعل، وإذا الساعة التي خصني بها أجملها وأقيمها، ولقد دهشت لهذا التصرف من جانبه، فما له وما لي بعد أن طلقني نزولا على إرادتي؟! أولو كان يميل إلى صديقتي، أفما كانت أولى هي بهذه الهدية مني؟ إنها لم تنتصر إذن علي، والموقف لا يزال في يدي.
Shafi da ba'a sani ba