Haka aka Halicce ni
هكذا خلقت: قصة طويلة
Nau'ikan
نزلت صبح الغد إلى بهو الفندق، فألفيت صاحبنا الأقصري في مكانه لأمسه، وأقبل علي حين رآني، وذكر لي بعد التحية أن الأثري الفرنسي، الذي يشرف على عملية التنقيب بالكرنك، ويقيم في منزل تجاه المعبد، يقيم اليوم حفلة شاي، وأنه علم بمقدمي من مصر، فأبدى الرغبة في حضوري هذه الحفلة، والاستعداد للمجيء إلى الفندق لدعوتي إذا كنت مستعدة لقبولها، وتحدث الأقصري عن هذا الأثري الفرنسي، مثنيا على أعماله، محبذا قبولي الدعوة، فلما أبديت أني لا أرفضها قدم بطاقتها باسمي، قلت: لا داعي إذن لتجشيم الرجل مشقة الحضور بنفسه، فبدت على محيا الأقصري علائم الغبطة، وقال: «سأصحبك إذن في عربتي إلى هناك.»
وذهبنا بعد الظهر معا، وتم التعارف بيني وبين الفرنسي وسائر المدعوين إلى الحفلة، وبعد أن تناولنا الشاي ذهبنا في زيارة قصيرة إلى الكرنك، رأينا خلالها ما أسفرت عنه عملية التنقيب، على أني خرجت من هذه الزيارة القصيرة وأنا لا أكاد أصدق ما رأيت من جلال هذا المعبد وفخامته وعظمته، ورأى الفرنسي إعجابي، فقال إنه يسر بمصاحبتي في أرجاء المعبد كله دليلا يشرح لي بعض أسراره، ونظرت إلى صاحبي الأقصري مبتسمة ابتسامة من يسأل: «أي الدليلين أختار، هو أم المشرف الفرنسي على المعبد؟» وجوابا على ابتسامتي وجه هو الحديث إلى المشرف قائلا: «متى قررت السيدة زيارة المعبد أحطتك تليفونيا، وحضرت معها لأستفيد جديدا عن آخر ما وصل إليه تنقيبك!»
قضيت أسبوعين على هذا النحو بالأقصر، أستبشر كل صباح بمشاهدة طفلي زادهما هذا الجو البديع نشاطا وصحة، وأتفق مع الطاهي على ما سيقدم لهما من طعام، وأقضي ما وراء ذلك متاعا بنفسي وبصديقتي وبمعارفي الذين ألقاهم في حديقة «ونتر بالاس»، أو أجلس إليهم ساعة الشاي في بهوها، أو أزورهم بعد العشاء أحيانا قليلة، أسمع موسيقى الرقص، وأمتع النظر بحركات الراقصين. وفي هذين الأسبوعين زرت آثار الأقصر في طيبة الأحياء، ومقابر الفراعنة ملوكا وملكات في بيبانها، وزرت الكرنك مع فوج من السائحين في ضوء القمر، وأشهد لقد كنت سعيدة بمن عرفت من الأحياء سعادتي بهذه المشاهد الخالدة الباقية على الدهر بقاء الدهر، فكانت هذه وأولئك يشغلونني في يقظتي وفي نومي؛ لأنني لم يكن يشغلني شيء سواهم، ولأنني كنت في هذه الفترة أقضي نهاري وليلي كما يقضي السائحون نهارهم وليلهم، لا هم لهم إلا المتاع بالحاضر، لا يشغلهم غدهم عن يومهم، ولا يفكرون إلا فيما تقع عليه أنظارهم، وما تلتهمه مشاعرهم وحواسهم، وكذلك نسيت السلك الدبلوماسي، ونسيت تحديد النسل، ونسيت القاهرة، بل نسيت أوروبا؛ لأن الحاضر أمامي كان يملأ فراغ وقتي، ولا يدع لي فرصة للتفكير في شيء غيره.
فلما صدمني الواقع بأنا عائدون إلى القاهرة بعد غد، شعرت كأنني أفيق من حلم سعيد لذيذ، وكأني إنما جئت إلى الأقصر لأمسي، واستبد بي هذا الشعور حين رأيت المربية صبح الغد تعد متاعنا للسفر، لم يبق لي إذن إلا أن أودع كل ما رأيت ومن رأيت خلال هذين الأسبوعين السعيدين، لم يبق لي إلا أن أودع هذه الغرفة التي احتوت أحلام يقظتي ونومي بفندق الأقصر، وهذا البهو وقاعة الطعام، وهذا الفناء، وهذه الحديقة، ولقد كانت ملعب طفلي، ومهبط أشعة الشمس المحسنة إليهما، وأن أودع حديقة «ونتر بالاس» وبهوها وشرفتها والنيل، وبيبان الملوك والملكات مما تطل هذه الشرفة عليه، وأن أودع صديقتي وصاحبها الأقصري، وهذا الألماني المثقف الظريف الذي تردد علينا بضع مرات كنت أحس كل مرة منها بأنه أوسع ثقافة وأكثر ظرفا! نعم، لم يبق لي إلا أن أودع من رأيت، وما رأيت، وأن أقول لهم ولها: إلى الملتقى إن قدر لنا أن نلتقي ها هنا مرة أخرى.
وخرجت إلى فناء الفندق أشرف على الطفلين حتى تنزل المربية إليهما بعد أن تفرغ من إعداد المتاع، واتجه نظري إلى باب الفندق الخارجي فيما وراء الحديقة، ودارت برأسي خواطر مبهمة أوحت بها خلجات نفسي، ترى لو أنني جئت إلى هنا العام المقبل، أتراني ألتقي بمن أودع اليوم؟ وابتسمت في مرارة حين ارتسم أمام بصيرتي الجواب الطبيعي لهذا السؤال: نعم، سأرى الفندقين وحديقتهما، وسأرى النيل والمعابد، وقبور الملوك والملكات، كما أرى شمس الأقصر وقمرها.
أما صديقتي والأقصري والألماني، ومديرا الفندقين، ومن إليهم من رجال ونساء يقيمون هنا، دعك من السائحين والسائحات، فلا علم لي ولا علم لأيهم ما مصيره بعد عام، بل بعد شهر، بل بعد يوم، فقد يرجع الألماني إلى وطنه ثم لا يعود، وقد يمرض أحدهم وقد يموت. ألا تعسا لهذه الحياة! لا نمسك منها إلا بخيال سريع التنقل سريع الزوال، وما أشهاها مع ذلك، وما ألذها، وما أطيب ما نسيغه من حلو متاعها! أتراها تكون كذلك لو أن الأحياء كتب لهم البقاء كما كتب على المعابد والنيل والشمس والقمر؟
ونزلت المربية فتركتها مع الطفلين، وأخذت طريقي إلى حديقة «ونتر بالاس»، وهناك جلست أتحدث إلى صديقتي حديث الوداع، وإنا لكذلك، إذ أقبل الأقصري فجلس إلينا يشاركنا في هذا الحديث، ثم قال ساعة انصرافه إنه دعا الألماني كما دعا الفرنسي المشرف على أعمال التنقيب بمعبد الكرنك لتناول الشاي معنا قبيل المغيب ليقوم الجميع بتوديعي.
واجتمعنا حول مائدة الشاي، واستمعنا إلى الموسيقى، وتحدثنا، فلما آن موعد انصرافي حياني الفرنسي بكلمات تسيل رقة، وتمنى لي عودا سعيدا إلى بيتي، وعانقتني صديقتي وتبادلنا قبلات حارة، وقال الأقصري إنه سيراني مرة أخرى على محطة سكة الحديد صبح الغد، وأما الألماني فقد أصر على مصاحبتي إلى فندقي، فطريقي طريقه إلى مسكنه، فلما بلغنا باب الفندق وقف يودعني، وأخرج من جيبه علبة صغيرة وقال: «أرجو يا سيدتي أن تقبلي هذا التذكار الصغير لتعارفنا القصير، خلال هذه الفترة الوجيزة، إنه لا يعبر عما أشعر به نحوك من إكبار وتقدير فحسب، ولكنه يذكرني كذلك عندك كلما رأيته.» وشكرته وفتحت العلبة قبل أن ينصرف، فرأيت بها حلية صغيرة دقيقة الصنع غاية الدقة ، فلما أبديت إعجابي بها قال: «لقد صنعتها بنفسي، وإن لم تكن صياغة الحلي صناعتي»، ثم ودعني وانصرف.
وفي الصباح الباكر جاءت عربة الأقصري فانتقلنا بها إلى المحطة، فإذا هو ينتظرنا على إفريزها، فلما آن لنا أن نستقل القطار، وصعد إليه الحمال بمتاعنا رأيت مع المتاع زنبيلا أشار إليه الأقصري وقال: «إنها هدية صعيدية لا تليق بالمقام، تأكلونها شفاء وعافية.»
وانطلق بنا القطار، وأنا وحيدة في الديوان مع طفلي، أستشعر رهبة، ولم أشعر بحاجة إلى دفاع، وغلب النوم الطفلين لتبكيرهما في اليقظة، فاستلقى كل في ناحية، ورحت أنا يتردد خيالي بين الأقصر ومقامي بها، والقاهرة وإقبالي عليها، لكني ما لبثت بعد قليل أن نسيت القاهرة وتعلقت بالأقصر؛ ذلك أنني حانت مني التفاتة إلى متاعنا فأخذ الزنبيل بنظري، وأحيا صورة الأقصري في ذهني، وأحيا صورة بلده، ودفعني منظر الزنبيل وتوهم ما فيه إلى المقارنة بينه وبين الحلية التي أهدانيها الألماني، وبين ذوق كل من صاحبي الهديتين، وأدت بي هذه المقارنة إلى أن أسأل نفسي: أفكان من حقي أن أقبل أيا من الهديتين؟ صحيح أن هدية الأقصري قد زج بها بين متاعي من غير علمي، وأنها فوق ذلك طعام لن يبقى له غدا أو بعد غد أثر، وأستطيع إذا سألني زوجي أن أذكر له كل شيء عنها، ولكن ماذا عساي أقول إذا سئلت عن هدية الألماني، وكيف سولت لي نفسي قبولها؟
Shafi da ba'a sani ba