Haka aka Halicce ni
هكذا خلقت: قصة طويلة
Nau'ikan
وأخذت أفكر كيف أقاوم ما قررا، ولم يكن الذهاب إلى المدرسة سبيلي بطبيعة الحال إلى هذه المقاومة، فأنا لم أكن أذهب إليها وحدي، بل كان يصحبني في ذهابي إليها وأوبتي منها بوابنا العجوز، كما أنني لم أكن أستطيع أن أعلن هذا العصيان الصريح، وأنا موقنة أن ثورتي لن تلبث أن تتحطم، ولن يكون من أثرها إلا أن يغضب مني والدي وتشمت زوجه بي، ولذلك قررت أن أقضي معظم وقتي في قراءة ما أستطيع قراءته من كتب عربية وإنجليزية أستطيع الحصول عليها بوسائلي، ولم أجرؤ يومئذ أن أستشير أحدا فيما أقرؤه، فكنت أقرأ كل ما يقع في يدي، صالحا كان أو طالحا، نافعا كان أو ضارا.
وبدأت زوج أبي تشغل نهاري بما سمته إعدادي لحياتي المقبلة، فأخذت تعلمني التطريز والخياطة والطهي وما إلى ذلك مما يتصل في نظرها بتدبير المنزل، فهي لم تكن تعرف القراءة والكتابة، لكنها كانت تجيد هذه الأعمال كما كانت تجيد العناية بجمالها كل الإجادة؛ لذلك كان إشرافها على نظام المنزل وحسن تدبيره وعلى كل ما نأكل ونشرب بالغا غاية الدقة، صحيح أنها لم تكن تباشر من ذلك شيئا بنفسها، لكن نظرتها إلى ما يجري في المطبخ أو في الكرار، وإلى ترتيب الأثاث وحسن تنسيقه، وما تبديه في هذه الشئون من نقد وما تصدره من أوامر، ذلك كان كافيا ليجعل عيون الخدم في رءوسهم، فلا يهملون شيئا، ولا يغفلون واجبا، وهي لم تكن مسرفة ولم تكن مقترة، وكانت تعرف كيف تضع كل شيء في محله؛ لذلك أسرعت إلى كسب ثقة أبي كما كسب جمالها ناظره وقلبه وعواطفه منذ اللحظة الأولى.
أما أنا فلم أكن شديدة الإقبال على ما تعلمني من شئون المنزل، أكان ذلك رغبة مني عن هذه الشئون، أم كان لأنها هي التي تعلمني إياها؟ وقد خلق انقطاعي عن المدرسة جفوة بيني وبينها جعل كل ما تقوله لي أو تريدني أن أتعلمه موضع الريبة عندي، وأقبل والدي يوما يوجه إلي لوما رقيقا على ما يبدو من عدم إقبالي، وينصح لي في لطف أن أقدر عناية زوجه بي وحرصها على مستقبلي، فازددت بسبب ملاحظته نفورا من زوجه؛ إذ شعرت أنها تريد أن تصرف عني محبته لتستأثر وحدها بكل قلبه، وذكرت له أنني ربما ازددت إقبالا على هذه الشئون لو تعلمتها في مدرسة، فابتسم ابتسامة ذات معنى وتركني وشأني؛ إذ أدرك أنني أريد أن أبتعد عن البيت وربته جهد المستطاع.
وخيل إلي بعد زمن أنني وجدت الوسيلة لما أريد ، فذكرت لأبي بحضور زوجه أن المرحومة والدتي كانت تود لو تعلمت البيانو، ذكرت ذلك وكنت مقتنعة بأن امرأة والدي ستعارضه، ولشد ما كانت دهشتي إذ رأيتها تقول: كلامك هذا معقول يا عزيزتي، فكل فتاة مهذبة لا تعرف اليوم أن تلعب إحدى آلات الطرب ينقصها شيء جوهري لحياتها الزوجية، ثم أشارت إلى والدي قائلة: ومن الخير أن تشتري لها البيانو منذ الآن، فهو بعض جهازها، ومتى جيء به إلى البيت جاءت معلمته تدرسه إلى بنتنا.
ونظر إلي أبي مبتسما، وهز رأسه كأنما يعاتبني على ما يدور بخاطري من ظنون بزوجه، وكأنما يقول لي: إن روحها جميلة جمال شخصها، وإنها تحبني حبها لابنة أحشائها. وجاوبت ابتسامته بابتسامة مثلها شكرا له على عطفه، وانتظارا للبيانو الذي كنت أحلم به.
وكان حقا علي أن أشكر زوج أبي لتأييدها طلبي، لكنني لم أفعل، فقد كنت أريد أن أتخذ من تعليم البيانو فرصة للفرار من جو المنزل، أما أن تجيء معلمة البيانو إليه فقد أصبحت دروسه تحت سمع امرأة أبي وبصرها، وهذا السمع والبصر يضيعان علي الفرصة التي كنت أطمع في انتهازها، ولم أكن أستطيع أن أعبر عما يخالج خاطري من ذلك مخافة أن يساء تأويله، وما أغناني عن سوء التأويل، وحسبي أن صديقتي وزميلتي التي كانت تقيم على مقربة منا كانت تكثر التردد علي، وكان يسمح لي برد بعض زياراتها.
واشترى والدي البيانو، وجاءت معلمته فأكببت على استذكار دروسه إكبابي على قراءة كتبي، بذلك شغلت معظم وقتي ولم يبق فيه لتدبير المنزل في صحبة زوج أبي ما يثقل على نفسي أو تنوء به روحي، ومع ذلك بقيت الحيرة تتولاني كلما خلوت هنيهة إلى نفسي، وأشعر كأني غريبة في هذا المنزل الذي ولدت به، والذي أعيش فيه مع أبي، وكأن روحا آخر يرفرف من وراء الحجب، يريد أن يطمئن علي، وعلى أنني لا أنوء بألم الحياة.
وكان أبي يشاركني الحيرة، وإن كانت حيرته من نوع آخر، لقد كان يسبقني إلى رغباتي، فلم أكن أطلب شيئا إلا أجابني إليه، وأضاف إلى ما طلبت ما يظنه يزيد في غبطتي، وكان يرى زوجه تشاركه في العمل على إرضائي، ثم يراني برغم ذلك قليلة الابتسام ميالة إلى العزلة، يبدو علي دائما أن شيئا ينقصني، وأنني غير مستريحة لما أنا فيه، وكان من حقه والأمر كذلك ألا يعبأ باعتزالي، لكنه مع ذلك يحاول دائما أن يبلغ مرضاتي، على حين كانت زوجه ترى في تصرفه من المبالغة في تدليلي ما لا يتفق مع حسن تربيتي.
ولقد طالما ذكرت تلك الأيام، بعد أن تزوجت وصرت أما، وطالما سألت نفسي: أكنت متجنية في حيرتي وفي عزلتي وفي عدم رضاي؟ فلم يكن ينقصني يومذاك شيء، ولم تكن زوج أبي تسيئني بكلمة، وكان جوابي عن هذا التساؤل هو الجواب الطبيعي، فسعادتنا لا تتعلق بحاجتنا المادية بقدر ما تتعلق بحالتنا النفسية، وبإحساسنا وعواطفنا، ولئن جرت في شأن امرأة الأب الأقاويل، لحق أن زوج أبي لم تتعمد يوما أن تجرح عواطفي، أو أن تمنع عني خيرا، بل لقد كنت أرى والدتي قبل مرضها ووفاتها توجه إلي من ألوان النقد ما لم توجهه إلي زوج أبي.
لكن النقد الذي كانت توجهه إلي أمي، والذي كان يغضبني أحيانا، كان صادرا من أمي، كان الدواء الذي لا نسيغ طعمه أحيانا ولكننا نرى فيه الشفاء، فإذا لم نؤمن بأن فيه الشفاء فلا ريب عندنا في أنه صادر من قلب سليم، وإخلاص صادق لخيرنا، بلا ريب عندنا في أن الحنان المتفجر من أعماق القلب البر العطوف، قلب الأم، يمحو كل ما في هذا الكلام من شائبة تكدر صفونا. وهل الأم كلها، وكل ما يصدر عنها، إلا حنان وبر وعطف، وإيثار لبنيها على نفسها؟ وهل الأم وما أنجبت إلا شجرة واحدة تتشعب فروعها، وكل ما يمتصه الجذع من أسباب الحياة إنما يمتصه لحساب هذه الفروع ولبهائها ونمائها وحسن إثمارها؟ أولا تدل قوانين الوراثة على أن الأسرة وحدة متصلة على الزمن، وأن عصارة الحياة في عروق الأجداد تمتد إلى أحفاد الأحفاد، وقلب الأم يعرف نفسه ، ولا يفرح لصاحبته أو يأسى لما يصيبها، وإنما فرحه لابنها أو لابنتها، وأساه لما يصيبهم؟! والأم تجمع إلى قلبها قلب الأب لتسكبه حنانا ومحبة وبرا في روح ذريتها، هذا كله تراث معنوي ضخم هو مصدر طمأنينتنا للحياة وسعادتنا فيها.
Shafi da ba'a sani ba