قال وقد بان السرور في وجهه: «كيف لا، وهذه بغيتي وأكون قد نصرت الحق وأهله؟!» •••
عجب حسن لقبول محمد هذا الأمر ولكنه ما لبث أن سمعه يقول لعرفجة: «ولكن دعوة أهل العراق تحتاج إلى المال؛ لأن بني أمية إنما غلبوا أخوي بالمال، وسيغلبون اللائذ بالكعبة بالمال أيضا، فإن ديارهم غنية وعندهم المال كثير ينفقونه في ابتياع الأحزاب والأتباع. فإذا كنت صاحب مال فإني أرجو لك النجاح.»
فلما سمع عرفجة كلام محمد سقط في يده، وخاب ما أمله، ولم يدر بماذا يجيب. ولكن محمدا لم ينتظر جوابه فقال له: «إن هذا الكرسي الذي تزعم أنه كرسي أبي ليس سوى كرسي قديم لأحد الزياتين. وقد زعمت أني ندبت المختار ليدعو إلى بيعتي، وهذا وهم باطل لأن ذلك الثقفي إنما ندب نفسه لتلك المهمة ليشبع بطنه. فإذا كنت أنت جائعا فالتمس بابا آخر غير هذا!» قال ذلك وقد ظهر الغضب والجد في وجهه.
فارتبك عرفجة وتحقق ضياع أمله بعد أن قضى بضعة أعوام في تنميق ذلك الكرسي وصقله، وكتمان أمره عن أهل المدينة. وكان لا يشك في أنه إذا عرض الأمر على محمد بن الحنفية وجد منه قبولا، وبذلك يبتز منه المال ليشبع مطامعه وشرهه، ويضيف ذلك المال إلى ما قبضه ويقبضه مهرا لابنته من الحجاج.
وكان عرفجة من أصحاب الإحساس الأصم والعواطف المائتة، لا يحجم عن عمل مهما يكن خطيرا، إذا وجد فيه ما يشبع نهمه إلى المال، فلما تبين الغضب في عيني محمد عمد إلى الخديعة؛ فوقف بين يديه وهو يظهر الاستغراب وقال: «لقد عجلت يا مولاي بالحكم علي، وأنا إنما أدعوك إلى أمر عائدته لك ولأهل بيتك، ولا ألتمس على ذلك أجرا ولا شكورا.»
فقطع محمد كلامه وهو ينظر إليه شزرا وقال: «أتظن أمرك يخفى علي؟ لقد قرأت المكر والخديعة في عينيك. ولولا حرمة الجوار لألحقتك بالمختار وألحقت بك بني ثقيف!» ثم نادى: «سعيد.»
فنهض صاحب بلال وهو يكاد يطير من الفرح ، وأسرع حتى دخل على محمد، وحسن وبلال ينظران وقد غلب عليهما السرور.
فلما وقف سعيد بين يدي محمد قال له: «ألق هذا الكرسي في النار، وأخرج هذا الثقفي من خيمتي، وليقم حيثما يشاء، وإذا رحل فزودوه بما يحتاج إليه.»
فلما سمع عرفجة ذلك خرج من تلقاء نفسه وهو يظهر الأسف، وتبعه سعيد حتى خرج من الفسطاط، فوجده يبحث عن عبده قنبر، فلما لم يجده التفت إليه وقال: «إني راحل إلى بلدي وقد أسفت لأن الإمام محمدا لم يفهم مرادي.» قال ذلك متلطفا خوفا على حياته. فعجب سعيد للفرق العظيم بين هذا التزلف وبين مقابلته الخشنة ساعة وصوله بالأمس - وذلك شأن أهل الكبرياء يستبدون بالضعفاء من الناس، فإذا لقوا قويا استولى عليهم الذل وصغرت نفوسهم؛ لأن ما كان يبدو من كبريائهم واستبدادهم لم يكن عن نفس كبيرة وإنما ضعف رأي وصغر نفس.
وكأنما رق قلب سعيد لتزلف عرفجة، فعرض عليه النزول في دار الأضياف فاعتذر برغبته في الرجوع، وكان قنبر قد عاد فناداه وأمره بإعداد العدة للرحيل، ثم ركب عرفجة جملا وقنبر الجمل الآخر وخرجا من الشعب يلتمسان معسكر الحجاج. فلما بعدا عن الخيام أخذ عرفجة يتوعد محمدا بالسوء عند الحجاج ويذكره بكل قبيح من الشتم والسباب ليستر ما بدا لعبده من فشله.
Shafi da ba'a sani ba