فلما سمع حسن ذلك أبرقت أسرته ولكنه لم يطمئن تماما؛ لأنه لم يفهم فحوى هذا الكتاب، فأطرق وظل ساكتا.
فنادى الحجاج: «يا غلام.» ولما أقبل غلامه قال له: «ادع الكاتب.» فخرج ثم عاد بالكاتب، فدفع الحجاج إليه الكتاب وقال: «اتل هذا علينا.» فتلاه وهذا نصه:
من أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان، إلى الحجاج بن يوسف أمير جندنا في الحجاز، أما بعد، فقد بلغني أنك خطبت ابنة عرفجة المنافق وهي مخطوبة لحسن، فأخذتها وحرمته منها. والرجل ينتمي إلينا وتهمنا رعايته، فإذا أتاك كتابي فاحمل الفتاة إلى خطيبها، وأمهره بما يقوم بالنفقة. ووالله لرجوعك عن الحجاز ولم تفتحه أهون علي من ارتكابك هذا الأمر مع رجل من صنائعنا وخاصتنا. وثقتي أنك فاعل ما أقول والسلام.
فما فرغ الكاتب من تلاوة الكتاب حتى رقص قلب حسن طربا، وخيل إليه أنه في حلم، فجعل ينظر إلى ما حوله ليتحقق أنه في يقظة، ثم سمع الحجاج يقول له: «لم نتل الكتاب عليك إلا لتعلم أننا ما تجاوزنا عنك إلا عملا بأمر أمير المؤمنين.» والتفت إلى غلامه وقال: «أعطه ألف دينار. وسمية طالق منذ الآن ... فامض إلى خباء النساء وأنبئها بذلك، لتخرج معه من هذا المعسكر قبل غروب اليوم.» قال ذلك ووقف، فلما خرجوا خرج معهم وهو يهم بأن يخاطب حسنا وحسن يهم بأن يخاطبه.
وقبل أن يتكامل خروجهم، رأوا فارسا يسوق جواده نحو فسطاط الحجاج والبغتة ظاهرة في وجهه، فلما وصل ترجل ودخل دون أن يستأذن وقال: «إن مصيبة حلت في خباء النساء.»
فلما سمع حسن الصوت علم أنه صوت عريف الحرس، وخفق قلبه خشية أن تكون المصيبة حلت بسمية. ثم ما لبث أن سمع العريف يقول: «إن مولاتنا سمية سقطت لا حراك بها كأنها تجرعت سما أو أصابها الموت بغتة!»
فأحس حسن كأن جبلا سقط على رأسه، وكاد يفقده رشده وشغل عما كان فيه من سؤال أبي سليمان عن الطريقة التي حصل بها على ذلك الكتاب، ثم لم يسعه إلا أن يعدو نحو خباء سمية، ولم يكن أبو سليمان أقل بغتة منه؛ إذ جاء ذلك الخبر صدمة قوية أطارت صوابه، فسار في أثر حسن إلى الخباء، وسار في أثرهما بلال وغلام الحجاج.
وكانت سمية قد سمعت ما دار بين الحجاج وفرسانه أمام خبائها، كما سمعته وهو يأمرهم بأخذ حسن إلى السجن إلى الصباح، وأيقنت أن الحجاج قاتله لا محالة. ولكنها تعللت بالآمال البعيدة وصبرت حتى ترى ما يكون في الغد، فقضت ليلتها تفكر في مصير حسن، وأصبحت وقد أعدت السم وجلست وراء الخباء، تستطلع أنباء المحاكمة من الحراس. فلما جاءها أحدهم بمقتل أبيها وأخذ حسن لقتله أظلمت الدنيا في عينيها. وكانت أمة الله قد يئست من تخفيف المصيبة عليها ولم تعد تستطيع مخاطبتها فتركتها وشأنها، وبعد قليل جاءها أحد الحراس بنبأ قتل حسن داخل خيمة الحجاج، فسارعت إلى السم وابتلعته مرة واحدة ثم وقعت مغشيا عليها. فصاحت أمة الله وولولت، وأخبرت الحراس أن مولاتها تجرعت السم، فأسرع أحدهم على جواده بالنبأ إلى الحجاج.
وظل حسن يعدو نحو الخباء، وهو لا يكاد يرى طريقه، ولا يبالي ما يعترضه من الأحجار أو الأوتاد حتى أشرف على الخباء فصاح وهو لا يعي ما يقول: «سمية ... سمية ... أنا حي يا سمية!»
ولما وصل إلى الخباء أراد الفرسان منعه، ثم تركوه بعد أن أخبرهم الغلام بأمر الحجاج، فأطل من الباب فرأى سمية مستلقية وحولها نسوة يبكين. وكأنها جثة بلا روح وقد أطبقت عيناها وامتقع لونها وانحل شعرها وابيضت شفتاها فلم يتمالك أن اندفع نحوها وفي يده خنجره فتفرقت النساء عنه، ثم أخذ يجس يدها ويقول: «حبيبتي ... روحي ... منيتي ... ماذا أصابك؟! تجرعت السم يأسا من حياتي؟ إني حي يا سمية ... سمية إما أن تحيي مثلي أو أموت مثلك!»
Shafi da ba'a sani ba