قال: «إن الرسول لم يعد بعد.»
قال: «وما أظنني أراه ولو عاد من الغد.»
فقال حسن دون أن يدرك قصده: «كيف لا وهو رهن إشارة أمير المؤمنين؟»
قال: «على أي حال، لقد أيقنت بصدق رغبة خالد في الزواج من أختي، وإنه فيما علمت لأفضل القوم، فإذا لقيته فأوصه عني بها خيرا، واذكر له أن مصاهرته لآل الزبير جاءت متأخرة، ولو أنه عجل بها بضعة أعوام لما استطاع بنو مروان الاستبداد بالأمر، بما لا ينطبق على كتاب الله ولا سنة رسول الله
صلى الله عليه وسلم .» قال هذا وقد ظهر التأثر في عينيه وخشن صوته، ثم واصل كلامه قائلا: «ليت شعري كيف يسود العتاة الظلمة؟ وكيف يتغلب قوادهم المنافقون الذين يرمون بيت الله بالحجارة على رجال يعبدون الله ويعملون بكتابه؟!»
فأدرك حسن أنه يئس من الفوز، وأراد أن يستطلع ما اعتزمه فقال: «لا يخفى على مولاي أن النصر من عند الله يؤتيه من يشاء. ولا عجب في أن تكون الغلبة في الدنيا لمن همهم الدنيا، فقد كانت الغلبة لمعاوية على الإمام علي صهر الرسول وابن عمه، وقد فتك ابن زياد بالحسين وآل بيته؛ ذلك لأن الدنيا شيء والآخرة شيء آخر، وقد انقضى العصر الذي ساد فيه الحق والدين والتقوى، وأصبح الحكم الآن لا يتولاه غير أهل الدهاء والسياسة و...» ولما بلغ إلى هنا بلع ريقه وبدا في وجهه أنه أراد التصريح بشيء ثم توقف خوفا أو حياء. فنظر عبد الله إليه نظرة من يتوقع إتمام الكلام، فأتم حسن كلامه قائلا: «ولا أخفي على مولاي أن آل مروان، وآل أبي سفيان قبلهم، لم يخلص لهم الملك دون بني هاشم وغيرهم إلا بالدهاء والسياسة وبذلهم المال لدعاتهم وأنصارهم.» فلما ذكر المال بدا الانقباض في وجه عبد الله وقال: «لا تذكرني بالمال وأمره فقد كنت شحيحا به لأنه مال بيت الله، ولعلي لو بذلته للأحزاب لم يستطع ابن مروان الاستبداد بالأمر دوني، ولكني لا ألتمس الدنيا بالباطل ولا ابتياع الأنصار بالمال.»
فقال حسن: «لو أن مولاي أصغى لمشورة الحصين بن نمير يوم وفاة يزيد لما صار الأمر إلى بني مروان ...»
فقطع عبد الله كلامه وقال: «سمعتك تذكر هذا الأمر قبل اليوم، ولقد سمعته كذلك من كثيرين، على أني لو أطعت الحصين ورافقته إلى دمشق لما بايعني بنو أمية؛ فهؤلاء شق عليهم أن يبايعونا في ديارنا وبين أهلنا، فكيف لا يكون ذلك أشق عليهم في ديارهم وبين أحزابهم. ومع ذلك فقد قضي الأمر. وما بعثت إليك إلا لأوصيك بأختي خيرا، فأوص بها خالدا، وأبلغه عني أني أوصيه كذلك بأن يدع أمر الخلافة فإنها شاقة على أهل الدين في هذا الزمان، وليشتغل بما هو مشتغل به من العلم والكيمياء فذلك خير له وأجدى عليه. ولا أخفي عليك أني قطعت الأمل في الفوز بعد أن نبذني الأهل والأصدقاء خوفا من الموت، ولو أني طلبت الدنيا لما امتنع علي الحصول عليها، ولكنني أطلب الآخرة، وقد دعوت الناس إلى الحق فلم يصغوا، فلم يبق إلا أن أتركهم وشأنهم. وقد أنبأني الجواسيس بأن الحجاج وقومه عزموا على مهاجمتنا في الغد، ويفعل الله ما يشاء.» قال ذلك وغص بريقه فتشاغل بإصلاح غمد حسامه، ثم وقف وقال: «تعال معي إلى أمي لأخبرها بما استقر عليه الرأي في شأن رملة.»
فوقف حسن ومشى في أثره وقد لاح ضوء الفجر، فدخلا حجرة رأى حسن في صدرها امرأة عجوزا عرف أنها أسماء ذات النطاقين أم عبد الله، وهي بنت أبي بكر الصديق، وأخت عائشة زوج النبي. وكانت قد كف بصرها وبدا الهرم في وجهها، فحياها عبد الله وقبل يدها، فقبلته وتنهدت ثم قالت: «ما وراءك يا بني؟ ما لي أشم منك رائحة الحنوط؟»
قال: «إني أتحنط كل يوم استعدادا للموت. وأما الآن فقد جئتك بحسن الذي ذكرت لك قدومه من عند خالد بن يزيد لخطبة أختي رملة وقد أخبرته بقبول الخطبة فإن خالدا لأهل لذلك.»
Shafi da ba'a sani ba