وآن وقت الغداء، فلم يشأ الحجاج مغادرة الفسطاط قبل مجيء الفرسان ليرى ذلك الجاسوس الذي بالغ عرفجة في وصف خطره، فلما أحس الجوع أمر بأن يؤتى بالطعام إلى الفسطاط، وكان الحجاج من الأكلة المشهورين في الإسلام أمثال: سليمان بن عبد الملك، وميسرة البراش، وغيرهما، حتى قالوا إنه أكل 84 رغيفا مع كل رغيف سمكة في أكلة واحدة! فلما جاءوه بالطعام دعا من في مجلسه إلى مشاركته فيه، فاعتذروا جميعا تهيبا منه إلا عرفجة فإنه أكل معه، وإن ظل طول الأكل قلقا يفكر فيما دبره لحسن من المكايد. فلما فرغ الحجاج من الطعام رفعت المائدة، وجلس الحجاج صامتا. وكان عظيم الهيبة حسن الفراسة فإذا سكت لبث الذي في حضرته سكوتا كأن على رءوسهم الطير. •••
وفيما هم على تلك الحال، دخل الحاجب وقال: «لقد عاد الفرسان وعما قليل يصلون.»
فقال الحجاج: «وهل الأسير معهم؟»
قال: «لم أر بينهم أحدا ماشيا.»
قال: «لعله جاء على جواد.» قال: «إن بينهم رجلا بلباس غريب، فلعله هو الأسير.»
فنهض عرفجة ووقف بباب الفسطاط يتفرس في القادمين، ولما وقع نظره على حسن عرفه، وكانت هذه هي المرة الثانية التي يراه فيها بعد مقابلتهما في المدينة.
ولما رأى حسن عرفجة ارتعدت فرائصه من الغيظ، وود لو أن سيفه أصاب عنقه بدلا من قنبر. ولاحظ عرفجة أن قنبر ليس بين القادمين فظنه تأخر في الطريق، وعاد إلى الفسطاط وجلس بجانب الحجاج ثم دخل الآذن وأنبأ الحجاج بوصولهم فقال: «أدخلوا الرجل لنراه.»
فأدخلوه عليه وقد نزع سيفه ووقف بين حارسين أحدهما عبد الله وفي يد كل منهما حربة. ولا تسل عن هواجس عبد الله في تلك الساعة لما يعلمه من رغبة الحجاج في سفك الدماء. وأما حسن فإنه وقف بقدم ثابتة كأنه بين بعض الأصدقاء، والتفت إلى من حوله في الفسطاط فرأى في صدره الحجاج وعرفجة، وإلى الجانبين رؤساء الأجناد وكلهم سكوت تهيبا من الحجاج؛ لأنه قلما رئي ضاحكا، وإذا ضحك فإنه لا يزيد على أن يكشر عن أنيابه. وقد تسمع قهقهته فإذا نظرت إلى وجهه لم تجد فيه أي أثر لغير التجهم والعبوس!
وكان حسن يسمع بظلم الحجاج وشدة وطأته ورغبته في سفك الدماء، ولكنه اعتزم الصبر والثبات حتى الموت، وبقي واقفا برهة لا يخاطبه أحد في شيء والحجاج ينظر إليه ويتفرس فيه ثم قال له: «ممن أنت؟»
قال: «ما أنا من ثقيف ولا من أمية.»
Shafi da ba'a sani ba