وكان من أهل المدينة في أواسط القرن الأول للهجرة مغنية يقال لها «عزة الميلاء»، وكانت مولاة للأنصار، وهي أقدم من غنى الغناء الموقع من النساء في الحجاز. وقد سميت «الميلاء» لتمايلها في مشيتها لفرط سمنها. وكان العود حديث العهد عند العرب فأجادت العزف عليه، عدا ما كانت تحسنه من العزف بالمزاهر وبقية آلات الطرب، وكانت جميلة الوجه ظريفة اللسان كريمة الخلق سخية النفس لا يقدم قادم إلى المدينة إلا التمس أن يراها ويسمع غناءها.
وكان العرب يومئذ لا يعدون الغناء من الصنائع اللائقة بأهل الشرف، على أن عزة كانت مع ذلك ذات دين حسن وهيبة ووقار، إذا جلست للغناء في حفل عام أنصت لها الحاضرون وكأن الطير على رءوسهم.
وكانت دارها في أقصى شمال المدينة مما يلي طريق الشام، يحيط بها بستان من النخيل تتخلله أشجار الفاكهة من البرتقال والتفاح، وعليه سور قليل الارتفاع له باب بمصراع واحد في وسطه خوخة. وفي بعض جوانب البستان حظيرة مبنية من سعف النخل توضع فيها الدواب. وللدار باحة كبيرة في كل جانبيها غرفتان ، وفي الصدر قاعة واسعة تجلس فيها عزة لمقابلة الزوار، وفي باحة الدار نخلات متقاربة تظلل الباحة في أثناء النهار.
ففي يوم من أيام ربيع الآخر سنة 73 للهجرة (وهو يوافق شهر أغسطس سنة 693م) قضت عزة الميلاء نهارها في بيتها. وكان يوما شديد الحر، والحر ثقيل هناك للرطوبة المتكاثفة مما يتصاعد من أبخرة المستنقعات والأشجار، فلما دنت الشمس من الغروب دخلت إلى مخدعها فأخرجت قارورة من الطيب فتطيبت، وبدلت ثيابها فالتحفت ملاءة معصفرة لونها أصفر زاه، وكشفت النقاب عن رأسها لشدة الحر مع خلو المكان من الرجال. وأرادت أن تتناول عشاءها على سطح البيت تحت قبة السماء.
وكانت يومئذ في نحو الخمسين من عمرها وقد تزايد سمنها وذهبت استدارة وجهها وارتخى خداها واستطالا إلى أسفل الذقن، وثقل بدنها حتى لم يكن في المدينة دابة تحملها. وكانت قلما تنتقل من بيتها، والناس يفدون عليها لسماع غنائها أو ضرب عودها، ويحملون إليها الأموال والهدايا من الحلي والجواهر، حتى ملأت معصميها بالأساور والدمالج وطوقت عنقها بالعقود، وضفرت شعرها بسلاسل الذهب والدنانير، وعلقت في أذنيها قرطين كبيرين يتناسبان مع حجم أذنيها؛ لأنها كانت كبيرتهما مع تناسب التكاسير. وكذلك آذان أهل الغناء والموسيقى في الغالب.
وكان الرجل من أهل الوجاهة إذا أراد التزوج بفتاة لا يعرفها استشار عزة ووسطها في خطبتها أو استطلاع مدى جمالها وصحتها.
وكانت عزة قد قضت ذلك اليوم ولم تعمل عملا لشدة الحر، وعندها فتاة من نزالة المدينة اسمها «سمية» كانت تحبها وتأنس بها. وكانت الفتاة ترتاح إلى عزة وتكاشفها بسرها وتستشيرها في أمرها، وقد جاءتها يومئذ وعليها ثوب أحمر يكسوها كلها. وكانت معتدلة القامة صحيحة الجسم، إذا نظرت إلى تقاطيع وجهها أفرادا لا ترى جمالا باهرا، ولكن في عينيها ما يدل على الذكاء والحب، وحول ثغرها ابتسامة تأخذ بالعقول، حتى كانت وهي في أشد اضطرابها قلما تبدو الكآبة في وجهها، وربما زاد ذلك في هيبتها. وفي ذقنها اندفاع قليل إلى الأمام مع بروز، وهو دليل الانعطاف، وفي أنفها ذلف قليل يزيدها مهابة. وكانت في نحو الثالثة والعشرين من عمرها.
فلما أرادت عزة الصعود إلى السطح أمرت جارية لها أن تفرشه بالأبسطة وتعد عليه المائدة، وأمسكت ضيفتها بيدها وقالت لها مداعبة: «هلم بنا إلى السطح يا سمية واتركي الهموم جانبا، وتعالي لأريك يثرب وضواحيها من سطح بيتي فإنها من أجمل ما يكون، ولا تعجلي في العودة إلى بيتكم فما أظن أباك قد عاد إليه بعد.»
فمشت الفتاة وراءها وقد ارتاحت لقولها، وأرادت نسيان ما يجول في خاطرها من دواعي الهموم، وصعدتا على سلم من خشب كان يهتز تحت قدمي عزة، حتى وصلتا إلى السطح وقد انتهت الجارية من إعداد المائدة. فجلست عزة، وأجلست سمية إلى جانبها، ولاحظت أنها ما زالت مضطربة البال، فأرادت أن تصرف ذهنها إلى شيء آخر فلم تر خيرا من أن توجه التفاتها إلى ما يحيط بالمدينة من بساتين النخيل وما بينها من برك الماء والمستنقعات فقالت لها: «تأملي يا بنية في هذه البساتين الواسعة وراء سور المدينة، فإن نظرك لا يقف في آخرها إلا على التلال البعيدة، ولا سيما هذا الجبل، وهو جبل أحد الذي جرت فيه الوقعة الشهيرة بين النبي
صلى الله عليه وسلم
Shafi da ba'a sani ba