أعني ابن ليلى عبد العزيز بيا ... بليون تغدو جفانه رذما
الواهب البختَ والولايدَ كال ... غزلانِ والخيلَ تعلكُ اللجما
طرب له طربًا شديدًا، واستعادة مرارًا، ثم التفت إلى الفتح ابن خاقان لمن هذا الشعر وفيمن قيل؟ فقال: هذا لكثير عزة في عبد العزيز بن مروان أخي عبد لملك بن مروان، فغضب أشد من الغضب الأول، وقال: يا خدم خذها فعلقها في خيط البرادة مشدودة بالشادوفة، ثم دخل غلام شاب ظريف، في يده عود، فجلس بين يديه وغنى:
أقبلي فالخيرُ مقبلْ ... ودعي قولَ المعلَّلْ
وثقي بالنجحِ إذْ أب ... صرتِ وجهَ المتوكلْ
ملك ينصفُ ياظا ... لمتي منكِ ويعدلْ
فهو الغايةُ وألمأُ ... مولُ يرجوهُ المرملِّ
فرفع المتوكل رأسه إلي وقال لي: كذا ويغني الناس! والله العظيم لا نزلت من مكانك حتى تحفظيه وتأخذيه عنه وتغنيه فما زال الغلام يردده حتى كحفظته ولقنته، وحططت فغنيته.
١٩ - وذكر أن مغنية كانت تغني بين يدي المهدي، فغنت:
ما نقموا من بني أمية إل ... لا أنهم يسفهون إنْ غضبوا
فقيل ها: غلطت في شيء تخلص له! فقالت: لا والله ما غلطت، وإنما بدأت بالبيت وعرفت غلطي بغنائي فيه، فاستدركته وأصلحته بما سمعتهم، ولم أرجع عنه ولم أورده على وجهه فيثقل على المهدي سماعه.
٢٠ - وحكى الربيع أن المنصور أحضر أحد بني أمية يومًا إلى حضرته، فوبخه على فعلهم، وعدد ما حضره ما مساويهم وقبيحهم توبيخًا لم يشك الرجل أن السيف بعده، فامتقع لونه وكان أن يقتله خوفه، ثم أن المنصور رجع عن ذلك القول إلى الصفح عنه وإيمانه، فقلت له قليلًا قليلًا: قد وهبك أمير المؤمنين فأشكره وأدع له! فقال الرجل بإنذعاره وانزعاجه:
فما بقيا عليَّ تركتماني ... ولكن خفتما صرد النِّبالِ
واتفق لسعادته أن لم يسمع المنصور قوله، ورد عليَّ ما حيرني وأدهشني، فأما الرجل فلم يدر ما قاله لسانه لزوال عقله عنه ومفارقة لبه له، فقال لي المنصور: ما قال فقلت: قال:
العبدُ عبدكمُ والأمرُ أمركم ... فعل عذابكَ عنّي اليومَ مصروفُ
فقال: لعل في أذنه ثقلًا، ولم يسمع ما قلناه في العفو عنه وهبة دمه، فلأعلمه ذلك واصرفه، فلت له (في) ذلك واجب، مما سمعه المنصور، صرفته، ثم حدثه من بعد بما كان منه فانذعر له، وحلف أنه لا يدري ما قاله، وقال: قد حقنت دمي بحسن تلطفك بعد أن أراد أن يطيح بسوء الاتفاق ويكون لساني القاتل لي!
٢١ - وحكي أن امرأة وقفت للمأمون على الطريق وقد تحفظت كلامًا، سجعته ورتبه لتدعو له وبه وتستميحه فيه، فانقلب لسانها بالدعاء عليه على السجع الذي رتبته وهيأته، فعلم المأمون أنها غالطة، فقال: الله يفعل بنا ما نويته لا ما أبديته، اقضوا حاجتها.
٢٢ - وكان شاعر يعرف بالدلو يخدم بني عبد الرحيم في سني نيف وعشرين وأربعمائة، وهم وزراء لوقت، وله فيهم مدائح، ولهم إليه إياد ومنائح، وهو بهم مختص، ومعهم منتصر، فاتفق أن صعد يومًا من سفينة وهو سكران، وأبو سعد بن عبد الرحيم الوزير الأكبر منه قد لبس خفًا وإزارًا إلى دجلة هاربًا من العسكر، فقال الدلو بسكره، غير عالم ولا عامد، بل بخاطر عن له عابث، شعرًا هو:
سري يخبط الظلماء والليلُ عاكفُ ... وزيرٌ بأوقاتِ التسلل عارفُ
وقصده بيده فيما أبداه، فلم يشك أبو سعد بن عبد الرحيم أنه عرفه وعناه، نزل إلى سميرة، انحدر فيها إلى حريم دار الخلافة، ثم عاود العبور والنظر بعد أيام، وجاءه الدلو بقصيدة يمدحه فيها، فمنعه من إنشادها واستخف به، وقال له: ويلك قد عاملناك بالجميل الذي لا تجحده، واستخلصناك لأنفسنا الاستخلاص الذي لا تنكره، فلم تصلح لنا ساعة من نهار وقفت لنا فيها على سر من الأسرار! لا فائدة لنا في الإقبال عليك والالتفاف إليك، وانصرف عنا معدًا، فقال له: ما معنى هذا القول أيها الوزير، وأي سر عندي لك، ومتى كتبت بهذه المنزلة منك! فقال له: ويلك أما رأتني في اليوم الفلاني على الصورة الفلانية فقلت كذا وكذا؟
1 / 5