اشتد به التأثر. وبقي التأثر معه طويلا. وامتلأ في حينه بالعبرة والموعظة حال الراجع من دفن عزيز. ولكنه أفاق في الوقت المناسب كذلك. وقال لنفسه: إن أحزان الدنيا توجد لا لتثبط الهمة ولكن لتشحذها ..
واتجه تفكيره بكل قوة إلى الدرجة التي ستخلو قريبا. وهو لا يختلف اثنان في الشهادة له بالقدرة والاستقامة والورع. بل هو أكفأ من وكيلي الإدارة ولكن أحدهما في الثانية والآخر في الثالثة، ولو جرى العدل بغير اعتبار إلا للكفاءة وحدها لكان أحق منهما بدرجة مدير الإدارة، ولكن كيف يثب من الرابعة إلى الأولى دفعة واحدة؟!
وأحيل حمزة السويفي إلى المعاش بناء على طلبه. وأجريت حركة ترقيات شاملة في الإدارة من الثامنة إلى الأولى، فرقي إسماعيل فائق إلى درجة المدير، كما رقي عثمان بيومي إلى الدرجة الثالثة وكيلا للإدارة. وهكذا غير ضغط الدم شتى المصائر سلبا وإيجابا. وسعد عثمان بالترقية يوما ولكن سرعان ما أدركه الفتور، لقد كان حمزة السويفي موظفا قديرا ولكن لا يوجد بعده من هو أحق بمركزه منه هو، وأنه لمن المضحك المبكي أن يقدم رجل مثل إسماعيل فائق مديرا للإدارة. ومضى إلى حضرة صاحب السعادة المدير العام ليشكره. ولم يكن بداخله شك في أنه أقرب الموظفين إلى قلبه وتقديره، وأنه يعتمد عليه في أعمال الإدارة ونشاطه الخاص على السواء. صافحه، وأعرب لسعادته عن شكره بلسان بليغ. وقال صاحب السعادة: إنك لم تعرف الظروف كلها، لقد تراكمت على مكتبي التوصيات من الوزير والوكيل والشيوخ والنواب ..
ونظر إليه مليا ثم استطرد: قلت لكم ما تشاءون إلا درجة واحدة لرجل وساطته هي مقدرته وخلقه.
فلهج بالشكر لسانه وكتم في القلب أحزانه فعاد صاحب السعادة يقول: لا خفاء بيننا في أن إسماعيل فائق ضعيف وجاهل.
فقال بامتعاض: لا خلاف على ذلك يا صاحب السعادة .. - فالثقل سيقع عليك وحدك بالرغم من أنك الوكيل الثاني. - إني في الخدمة دائما ..
فقال بهجت نور متأسفا: ماذا كان في وسعي أن أفعل؟ .. إنه كما تعلم من أقرباء الوكيل. - لا لوم عليك يا صاحب السعادة .. - على أي حال مبارك ومصيرك أن تنال حقك كاملا غير منقوص ..
ورجع راضيا بعض الشيء ولكن امتعاضه مضى يتصاعد فنسي فرحة الترقية. ولعن الجميع بغير استثناء. وقال جزعا: العمر أسرع من جميع حركات الترقيات!
وودع موظفي الأرشيف فصافحهم وهو يتلقى تهانيهم، وعندما جاءت أنسية لمصافحته لاحظ - في دوامة من الانفعالات المتضاربة - أن بطنها يتخلق بصورة جديدة وسعيدة! زوجة وحبلى ولا شك أن حسين سيسعد سعادة خاصة بنقله إلى الإدارة. وجلس في الإدارة كوكيل ثان ولكنه شعر باستعلاء على من حوله، وبأنه أهل الثقة الأولى، وبأنه الحجة في الإدارة واللوائح والميزانية فضلا عن دراسته للقانون والاقتصاد وثقافته العامة وتفوقه الراسخ في اللغات. وتساءل: ما قيمة هذه المزايا حيال سرعة العمر أو أمام مرض مباغت؟!
وتوكد لديه أن الوكيل الأول والمدير أصغر منه في السن، وأن الدرجات لن تخلو إلا بمعجزة مجهولة، أو بوفاة عاجلة، أو بحادث يقع في الطريق! - أستغفرك اللهم لأفكاري وتمنياتي ..
Shafi da ba'a sani ba