فهو يظل ساكتا حتى يتعشى الغريب ويشرب شايه أو قهوته ويأخذ أنفاسا من الدخان، وغالبا ما كان الرجل يتكلم بعد هذا من تلقاء نفسه، ودون حاجة إلى سؤال، ومعظم هؤلاء الغرباء إذا تحدثوا كانوا لا يبالغون، ولا يكذبون، وكأنهم يدركون أنها ليلة، مجرد ليلة، وأن المستمع رفيق طريق، مجرد رفيق طريق، ومهما كان في المبالغة والكذب من روعة، فلا شك أن أروع شيء عند الإنسان أن يتاح له ذات مرة أن يقول الحقيقة دون أن يجر عليه قولها مسئولية أو متاعب.
قال الرجل إنه من الفيوم، وإنه ذاهب إلى الشام في حب الله، وإنه سار على قدميه خمسين يوما وأمامه مسيرة مائة يوم بإذن الله، ولم يكن حديثه مسليا، كان يتكلم ثم يصمت ويغلق عينيه دون أن ينتهي الكلام.
وبدأ جدي يتثاءب، وكنت لا أستطيع الكلام، فجدي كان قد نبه علي ألف مرة ألا أفتح فمي إذا كان أحدهم يتكلم وأن علي أن أجلس فقط وأستمع.
وكثيرا ما كان يؤدي الحديث إلى سكوت، ويطول السكوت والنار قد تحولت إلى جمرات، والجمرات غطيت بطبقة رقيقة من الرماد، والليل ساكن ونقيق الضفادع يملأ الليل بنغمة منظمة عميقة كأنه شخير الأرض التي نامت وراحت في النوم.
وفي نوبة سكوت طويلة أطلقت السؤال الذي أرقني طويلا فسألته: لماذا العمامة الحمراء ذات القطعة السوداء من الخلف؟
فقال: «لبسنا كده.»
ورأيت جدي يعتدل وينفض عن نفسه النعاس ويسأله باهتمام: «أنت من أنهي طريقة؟ وده لبس مين؟»
وفتح الرجل عينيه وقال: «احنا مش طريقة، احنا ولاد السلطان حامد، مالناش طريقة.»
وبدت لي إجابته عادية جدا لا تستدعي حتى مجرد التعليق.
ولكني في اللحظة التالية كنت أنتفض.
Shafi da ba'a sani ba