وكان كل شيء يدعوني إلى أن أنتهي من مهمتي بسرعة وأعود، فالعصر يضيق، والظلال تمتد بشكل مخيف، وحقول القمح واسعة كبحر أبيض لا شاطئ له، والناس فيها مجرد نقط غامقة صغيرة لا تكاد ترى.
ودرت حول المقام، لم يكن له سوى باب كالح قديم، ونافذة واحدة يتيمة، كانت لا بد هي النافذة التي حدثني عنها جدي، وتقدمت منها، ولكن، قبل أن أصلها، فوجئت ببحيرات وأنهار من الشمع المتجمد قد ملأت الأرض، كان الشمع الذي سال من النذور على مر الزمن قد ملأ حافة النافذة، وسال على الجدار حتى غطى أحجاره العارية، ووصل إلى الأرض.
وأدركت أن آلافا قبلي لا بد قد نذروا للسلطان حامد، ومن يدري، ربما ملايين (والملايين في لغة الأطفال لا تعني دائما ملايين).
وكدت أضحك على سذاجة أهل بلدنا الذين ذابت نقودهم واختلطت بالرمال، لأجل ماذا؟! لأجل هذا السلطان الذي لا خادم له ولا مسجد ولا مستجيرين، ولا حتى ضريح يوحي بالاحترام؟!
كدت أعود وأحتفظ بالشمع لنلعب به أنا وأصحابي في الليل ونوقده ونسهر حوله، وكم يكون هذا مسليا وجميلا! بل أنبت نفسي لأنني أضعت القرش في الشمع ولم أشتر به «كراملة» هو الآخر وسمحت لنفسي أن تصنع مثلما يصنع أهل بلدنا الجهلة، الذين لا يقرءون ولا يكتبون.
ولكني يومها، احتفظت بشمعة واحدة فقط، وأوقدت الاثنتين، لست أدري لم! ربما تنفيذا لتعليمات جدي ليس إلا، وربما رغبة في تقليد أهل بلدنا، فقط في تقليدهم، بل لماذا لا أعترض وأقول إنني، بعد أن قرأت الفاتحة، ودعوت لجدي ولوالدي، نذرت للسلطان إن أنا نجحت في العام التالي أن أوقد له دستة شمع بأكملها؟
ورغم أنني قلت لنفسي وأنا عائد إنني نذرت الدستة فقط لتفاؤلي بمسألة النذر إلا أنني من يومها بدأ السلطان حامد هذا يشغل علي تفكيري بشكل ما.
كان أحيانا يصعب علي، ذلك الولي الفقير المدفون في تلك البقعة النائية الموحشة، وأحيانا كنت أفكر في المؤمنين به، الفقراء مثله، الذين يتمنون أمنياتهم الصغيرة الطيبة، ويرفعون بصرهم إلى السماء، وينذرون للسلطان حامد، ويحقق السلطان أمانيهم فيسرعون إلى نافذته، ويشعلون شمعاتهم، وليلة وراء ليلة تضيء نافذة السلطان حامد بشمعة، أمنية صغيرة تحققت، وقلب فقير رأى لحظة سعادة، ولو لليلة، وأحيانا كنت أفكر في الكمية الهائلة من الشمع المتجمد بجوار المقام، كيف لم يسرقها أحد؟! كيف لا، والسلطان ليس له خادم يحرسه، والطريق إليه خال من المارة، والناس في بلدنا لا يتركون طوبة تنفع ولا حجرا إلا قلقلوها وحملوها إلى بيوتهم؟!
أحيانا كنت أفكر في تجريد عصابة من أصحابي للسطو على الشمع، وأحيانا كنت أخاف، وأحيانا كنت أسمع اسم السلطان، لم أكن أسمعه كثيرا ولا مسبوقا بتكبير أو محفوفا بتقديس خطير، وإذا جاءت سيرته لا يتوقف الواحد من أهل بلدنا عن الكلام مثلا ويقرأ له الفاتحة بخشوع، ينفض الواحد منهم بلغته وهو يستعد للقيام ويقول: «معلش، أهه كله من عضم النهار، شالله يا سلطان حامد! شالله!»
أو تتربع الولية من الولايا أمام مقطف السمك وتقول لعم علي الصياد: «بكام؟» فيقول: «بعشرة»، فتعود تقول: «وللسلطان حامد بكام؟» فيخفض عم علي حينئذ وجهه ويغلق عينيه وكأنما غلب على أمره ويقول: «عشان السلطان بتمنية، وعشانك انتي بتسعة»، أو يرفع الرجل جوال الطحين على رأس زوجته، ويقول وهو ينتعه: «إيدك يا سلطان!»
Shafi da ba'a sani ba