ولمحت دمعة صغيرة رقيقة كرأس الدبوس تفر من عينه، وتذكرت لحظتها فقط ساعة أن وضعوا النعش بجوار الحفرة، ثم فردوا ملاءة كبيرة فوقها، وأزاحوا غطاء النعش، وبالراحة حملوه، وقد أصبح صغيرا في الكفن الأبيض، ووسطه قد سقط بين أيدي الرجال، ويده اليمنى حين انزلقت وأطلت من الكفن، كانت هي يده بلا ريب، نفس اليد الحبيبة الضخمة ذات الشعر، والكف، التي طالما ملست على رءوسنا وباركتنا، اليد التي كنا نقبلها، ونتأملها ونحن نقبلها، اليد التي طالما لعبنا في أصابعها الكبيرة، وأحببنا لونها وخطوطها وضخامتها.
وعدت أقول له: «لماذا لم تقل لنا إنك ستموت؟!» وانتظرت أن يجيب فلم يفعل، فنظرت إليه فوجدته لا يزال على جلسته ولكن عينيه مغمضتان، ووجهه أصفر شديد الشحوب لا يتحرك، وجدته كشجرتنا المقطوعة حين هوت على طولها في الفناء، ومضى على قطعها أيام، واصفرت أوراقها وذبلت وتعرت الأغصان.
وعدت إلى بيتنا.
لا يزال برج الحمام في آخر الفناء أبيض وفيه خرابيش، وأوضة الفرن بابها مهبب أسود وظلام بشع داخلها، والأرض عليها عفش كثير، والبيت واسع جدا، وخاو، ليس فيه إلا المغرب، والصمت، والهواء الساكن الذي لا يريم.
وفي نفس الحجرة التي كنا نجتمع فيها أصبحنا وحدنا وجلسنا، أخوتي يرتدون ملابسهم الكاملة، وتكشيرة الحزن تبدو غريبة على وجوههم الصغيرة الشابة، وأمي متعصبة بمنديل، وفي أنفها وفمها وعينها ألم واحمرار ودموع.
جلسنا صامتين، واجمين ، ومصباح الغاز نوره أحمر كئيب، وعلى الجدران ظلال رءوسنا، ظلال واجمة داكنة، كقلوبنا، تبهت وتغمق كلما كبرت ذبالة المصباح وصغرت، جلسنا ساكتين وكأننا ننتظر شيئا ما، ننتظر أن يدق الباب، ونذهب جميعا لنفتح لأنه قد عاد، ضاحكا، دافعا طربوشه إلى الوراء كما تعود أن يفعل، فاتحا ذراعيه وصدره ليسعنا جميعا بكل مشاكلنا ومتاعبنا الصغيرة، أو هو في الحمام لا بد، وحالا سيخرج، ويتنحنح، ويكح، كحته التي حفظناها وألفناها، كحته التي لا نتصور بيتنا إلا بها، أو هو في الفناء حتما، يحادث جارنا، ويصلنا صوته من بعيد، وما أجمل صوته حين كان يصلنا من بعيد، ونعرف أن هذا صوت أبينا! نعرفه من ألف صوت، ونحبه دون آلاف الأصوات، ونفرح به؛ فمعناه أن أبانا قريب، وأنه قادم، وأننا سنكون بعد قليل حوله، وفي حضنه، وعلى مقربة من عينيه وحديثه وشعر صدره.
ولكن شيئا مما انتظرناه لم يحدث، لا دق الباب، ولا سمعنا صوتا، وأفظع ما في الأمر أننا كنا متأكدين أن الباب لن يدق وأننا لن نسمع أصواتا.
والمصباح يكاد نوره يختنق، وغازه يفرغ، وظلالنا تبهت على الجدران وتتداعى، وإحساس غريب بدأت أحس به، وأدرك أنني كنت أعانيه ولا أعرفه، إحساس أكاد أتذوقه بطرف لساني وأحس بقبضته حول صدري، إحساس بأنني حزين، حزين!
وتطلعت في وجوه أخوتي، وجوه مطرقة صامتة ذاهلة، وتطلعوا إلي.
وفجأة، وكأنما لسعنا خاطر واحد، انفجرنا كلنا نبكي، فقد أحسسنا لحظتها فقط أن أبانا حقيقة مات، وأنه انتهى من حياتنا إلى الأبد، ولم يعد لنا أب، ما أبشع هذا! لم يعد لنا أب!
Shafi da ba'a sani ba