وتحسنت أحواله، ولكن طموحه لم يشبع. ولما قامت ثورة يوليو لم يأنس إلى أسلوبها كشاب طموح يحلم بالثراء، وتحققت مخاوفه عقب الاعتداء الثلاثي ومصادرة الشركات البريطانية، عندما وجد نفسه مرة أخرى موظفا في الحكومة على غير إرادته. وعند ذاك درس حال أسرته وفروعها على ضوء الوضع الثوري الجديد، فرأى في آل عطا المراكيبي وآل سميرة خالته بعض الممثلين للثورة مثل عبده عطا وماهر عطا وابن خالته حكيم. وقرر فيما بينه وبين نفسه أن يتزوج من نادرة شقيقة عبده وماهر أو من هنومة شقيقة حكيم. وشاور أمه في الأمر فقالت: هنومة أقرب لنا، وهي الأجمل.
وبإيعاز منه خطبتها له؛ وهي مذيعة في الراديو وذات مبادئ وخلق كأخيها سليم ، وكانت قد رفضت يد ابن خالتها عقل، ولكنها وافقت على الزواج من نادر، وتم الزفاف في شقة بشارع حسن صبري بالزمالك، وألح نادر على أمه أن تعيش معه ولكنها أبت أن تغادر الدرب الأحمر أو تبتعد عن بركات الحي العتيق، حيث تقيم أيضا أمها المحبوبة وكثرة من أخواتها وبنات عمها. ونعمت الأسرة الجديدة بالسعادة وأنجبت له هنومة ثلاث بنات؛ سميرة وراضية وصفاء. وتوثقت العلاقة بين نادر وحكيم، وبفضل حكيم رقي نادر رئيسا للحسابات، وكبر مرتبه فوق ما يحلم أي من أقاربه الموظفين، ولكنه كان ذا طموح لا يعرف الحدود. ولما حصلت التأميمات تعين رئيسا لمجلس إدارة الشركة دون شبع من ناحيته حتى سألته هنومة: ماذا تريد؟
فقال بغموض: إني أحتقر المرتبات الثابتة.
فقالت هنومة بوضوح: وأنا لا أكره الثراء شريطة أن يقترن بالنقاء!
فتوجس خيفة من نظرة عينيها، وقال بعجلة: طبعا.
وشعر بأن شريكة حياته ليست شريكة في طموحه. وكان يؤمن في أعماقه بأن الفارق الوحيد بين أهل السجون وأهل الخارج هو الحظ لا الخلق أو المبادئ، وأن العالم مجموعة من الأوغاد لا ينجو منها إلا القوي الشاطر. واعتبر زوجته امتدادا للرأي العام الأحمق الذي عليه أن يداريه طالما أصر على تحقيق طموحه. ومضى يوثق علاقاته ببعض الضباط وآخرين من رجال القطاع الخاص، حتى كانت هزيمة 5 يونيو، وانكشف أمره فيما انكشف المستور من أمورهم، واكتفي بإحالته إلى المعاش بفضل حكيم أيضا، ولكن هنومة ثارت عليه ثورة لم يفلح في مهادنتها إلا بالطلاق. وقالت سميرة لهنومة بهدوئها المعهود: أنت مسئولة عن نفسك فقط.
فقالت الفتاة بشدة: لا أستطيع أن أغمض عيني وأهدم بنيان حياتي كله.
واحتفظت هنومة بالشقة والبنات، وراح هو يتنقل بين الفنادق والدرب الأحمر، وفسر لأمه الساذجة الطلاق على أنه خلاف مما يفسد الحياة الزوجية. ولما تغير الحال وهلت طلائع الانفتاح تنفس من جديد، واستمد من الجو الطارئ حياة لم يحلم بها من قبل. واشتغل بكل همة في الاستيراد، وحقق لنفسه أخيرا الحلم الذي راوده من الصغر، وانفسح المجال أمامه ما بين الخارج والداخل. وفي إحدى رحلاته تعرف بأرملة أسترالية فتزوج منها، وأقام معها في فيلا في المعادي. وكثيرا ما يقول ضاحكا: إنها قسمة عادلة، فالثراء للأقوياء والأخلاق للضعفاء.
نادرة محمود عطا المراكيبي
هي الرابعة في ذرية محمود بك عطا، ولدت ونشأت في سراي ميدان خيرت، في الجو المعبق بالعز والرفاهية، وكانت على قدر من الوسامة وإن تكن دون إخوتها الذكور، وعلى مثال أختها الكبرى شكيرة في الخلق والمبادئ والتدين مع شيء كثير من المرونة والدماثة. وكانت حادة الذكاء محبة للتعليم فلم يعارض أبوها في استمرارها فيه بعد أن غزاه الزمن بمفاهيمه الجديدة. وقد توجت سعادة صباها بالحب الذي ربط بينها وبين مازن ابن عمها. استوى فارسا لأحلامها منذ مراهقتها وحتى آخر يوم في حياته، بل لعله ظل كذلك طيلة عمرها، أحبته كما لم تحب شيئا في الوجود، وناطت به أحلامها وسعادتها وأمانيها. وشد ما جزعت للخصام الذي مزق أسرتها، وشد ما خافته على سعادتها وآمالها، وقالت لأمها: بابا جاوز غضبه الحد.
Shafi da ba'a sani ba