فقال أحمد بحيرة: لم أفكر في ذلك، هل تفكر في تأييد عدلي باشا؟ - المركز الثابت هو العرش.
فقال أحمد ببساطة: دائما الحق معك يا أخي. - ماذا يقول أصحابك من السمار؟ - كلهم سعديون. - أعلن انتماءك كي يعرف على أوسع نطاق. - وأولاد أختنا عمرو وسرور مع سعد أيضا. - هؤلاء لا مصالح لهم، لقد انتهت اللعبة، فلا تتصور أن الإنجليز سيغادرون مصر، ولا تتصور أن مصر تستطيع أن تعيش بغير الإنجليز.
وجزاء ولائه للعرش فاز هو وأخوه برتبة البيكوية، وقال لأخيه: كي يسلم آل داود أن الرتب ليست قاصرة عليهم.
غير أن ثورة من نوع آخر اندلعت في الأسرة، وكان قائدها عدنان ابن أخيه. وانشقت الأسرة نصفين متخاصمين؛ رجالا ونساء ، وشمت بها المتنافسون، كما حزن لها المحبون مثل عمرو ورشوانة. حتى سرور قال: حلت اللعنة بالأسرة الملعونة.
ولم يجتمع لها شمل إلا عند وفاة أحمد. وعقب وفاته بأشهر استفحل مرض السكر بمحمود، وكان عمرو وسرور قد رحلا عن الدنيا، فحلت بقلبه كآبة ضاعفت من تأثير المرض، ووهنت عزيمته، وزهد في العمل، وأقام أكثر وقته في سراي ميدان خيرت حتى وافته أزمة قلبية ذات صباح فأسلم الروح. ولحقت به نازلي هانم بعد عامين، وفي نفس عام وفاتها توفيت فوزية هانم. ولم يبق من ذلك الجيل إلا المعمرون مثل راضية وعبد العظيم باشا وبليغ معاوية، وهم الذين امتد بهم العمر حتى قيام ثورة يوليو.
مطرية عمرو عزيز
ولدت ونشأت في بيت القاضي، وهي الثالثة في ذرية عمرو وراضية، وكانت أشبه الجميع بخالتها المنتحرة صديقة في جمال وجهها ورشاقة قدها وعذوبتها. وكانت أجمل الأخوات، بل لعلها كانت أجمل بنات الأسرة جميعا، ومع أنها ترعرعت في عبير الدين والدروشة إلا أن السر لم ينفذ إلى أعماقها، واعتقدت أن حب الله ورسوله يعفيها من أداء الفرائض. وكان تفوقها في الجمال يحرك الغيرة في قلوب أخواتها، ثم حل الرثاء محل الغيرة مع تقلبات الزمن. وعرفت في صباها ومطلع شبابها بالظرف والمرح وحب الناس، والقدرة على كسب محبتهم فلم ينج من سحرها امرأة أو فتاة من آل سرور وعطا وعبد العظيم. أجل لم يشفع لها ذلك كله عندما أغرى سحرها شابا مثل لطفي عبد العظيم بالتفكير في الزواج منها، ذلك أن السحر نفسه له حدود في الوجدان الطبقي. بذلك تحولت أول تجربة سعيدة في حياتها إلى محنة عاطفية ذبحت قلبها الطري وأدمت كبرياءها. وهون من آلامها وقدة الغضب التي اندلعت من حولها دفاعا عنها وعن الأسرة. وهون منه أيضا أن الحب لم يكن حظي بالاعتراف بعد، فدارت المعركة حول الكبرياء وحدها، وهمدت في هاوية التقاليد العريقة. وما لبثت أن خطبتها صديقة لأمها، تم تعارفهما في ضريح سيدي يحيى بن عقب، وتفاءلت بالتعارف ومكانه، وحكمت بالطيبة على المرأة التي كانت تقيم غير بعيد في حارة الوطاويط. وكان العريس - محمد إبراهيم - مدرسا بمدرسة أم الغلام، فهو من ناحيتي الشهادة والمهنة مثل عامر، ورأته مطرية من وراء خصاص المشربية فأعجبها وجهه القمحي، وجسمه المليء، والغليون الذي يدخنه كالإنجليز! وزفت إليه في البيت الذي تملكه أمه بحارة الوطاويط، وكان من حسن الطالع أن كسبت مطرية قلب حماتها، ونعمت بحب صادق جمع بينها وبين زوجها حتى آخر يوم من حياته. وأشرقت أعوام متلاحقة بالهناءة والوفاق، وأنجبت فيها مطرية أحمد وشاذلي وأمانة، وكان ثلاثتهم كالأقمار في الوضاءة والوسامة، وحق لكل إنسان أن يعد بيت حارة الوطاويط من البيوت السعيدة بكل معنى الكلمة. وكان محمد إبراهيم ثاني رجل ينضم إلى آل عمرو بعد حمادة القناوي، ولكنه كان مهذبا دمث الأخلاق ومربيا مثقفا ذا مكتبة متنوعة المصادر، وشتان بين حديثه المنضبط وثرثرة حمادة وخيلائه القائمة على غير أساس. ولم يستطع محمد إبراهيم أن يتخذ من حمادة صديقا حقيقيا، وجامله كثيرا إكراما لصدرية التي حظيت بإعجابه ولم تخف عن فطنته مزاياها كست بيت. تلك الأعوام السعيدة خلدت في وجدان مطرية بتفاصيل حياتها اليومية، بدفء عواطف الزوج وحنان أمه وتسامحها وبريق الأبناء المبشر بالنور والانبهار. وتلقت بعد ذلك أول ضربة من ضربات القدر بوفاة أحمد وهو في الخامسة، جربت عذاب الأم الثكلى وحزنها العميق، وانبسط القبر أمام عينيها الدامعتين في هالة من العواطف الجديدة بعد أن سكنه جزء من قلبها النابض ونفحة من خيالها المحروم. وتضاعف حبها لقاسم بعد أن تجلى حزينا لا يتعزى عن فقد الراحل الصغير. وتحولت أمومتها الجريحة إلى شاذلي وأمانة. ولكن قلبها لم يسعد السعادة المأمولة بزواجهما. ورحلت حماتها في الثلاثينيات فورثت أعباء لم تعتد حملها، ثم نكبت بوفاة أبيها قبيل الحرب العالمية، ووفاة عمها سرور بعده بأعوام، فكابد قلبها آلاما حقيقية لشدة وفائه للعواطف الأسرية. واعتبرت زواج شاذلي خيبة ظالمة وضعتها في كفة حظها العاثر حتى قال لها محمد إبراهيم: ليس الأمر بالسوء الذي ترين.
فقالت متشكية: كان يستحق عروسا أفضل .
فقال الرجل: إنه أدرى بما يسعده.
وتابعت نجاح أمانة في دراستها بارتياح وأمل؛ وإذا بزوجها المحبوب يصاب بتليف في الكبد، فيلزم الفراش وتتدهور حاله، ثم يسلم الروح في العطلة الصيفية بعد نجاح أمانة في البكالوريا. تلقت مطرية أقسى ضربات حظها، ووجدت نفسها أرملة دون الخمسين. واضطرت إلى تزويج أمانة من عبد الرحمن أمين، ومكثت في بيت حارة الوطاويط مع خادمتها، وحيدة حزينة، وضاعف من همومها ما صادفته أمانة في حياتها الزوجية من متاعب. وكانت تتسلى بزيارة الأهل؛ أمها وأخواتها وإخوتها وبنات عمها وآل عطا وآل عبد العظيم داود، وفي مقدمة الجميع شاذلي وأمانة. ومضت تذبل وتجف، وتتغير معالمها، ولكنها أبقت على ميزتها الفريدة وهي تبادل الحب مع الأهل والناس. ولعلها الوحيدة من أسرتها التي لم تنقطع صلتها بشكيرة زوجة أخيها حامد بعد أن فصل الطلاق بين الزوجين. وشد ما أحزنها الموت المبكر لأبناء شاذلي، ولما نجا ابنه محمد من قدرهم دعت الله أن يبقيه لأبيه ولها، وتوسلت إلى أمها راضية أن تحميه بكل ما لديها من وسائل. وكانت ضربة قاضية لها عندما وافتها أنباء استشهاده في الاعتداء الثلاثي. واشتد بها الذبول والجفاف، وتبين أنها مصابة بسرطان. وما زالت تتدهور وتسير من سيئ إلى أسوأ حتى أسلمت الروح وهي في الستين. كانت أول من يموت من الجيل الثاني في آل عمرو، بل في الأسرة كلها. واقتضت الظروف ألا يحزن عليها كما ينبغي أحب الناس لها؛ شاذلي لم يترك له حزنه على ذريته فائضا، وراضية كانت في الثمانين وحزن الثمانين سريع الزوال، وقاسم كان قد استوى لديه الحزن والسرور ... فلم تجد أمانة من يشاركها البكاء واللطم.
Shafi da ba'a sani ba