فالشك أخذ يساوره في مستقبل علاقته بزوجته، كما مضى يملك عليه تفكيره بالنسبة لمستقبل وطنه الذي يتزحزح من مأزق إلى مأزق. ولم يعاوده تنفسه الطبيعي إلا في عهد السادات. ووجد في الانفتاح فرصة لأعمال كبيرة تنسيه الوساوس والهواجس. واختار الشقق ميدانا لتجارته مستفيدا من مدخراته وبيع نصيبه من ميراث أبيه. وربح أموالا طائلة، وعمل بنشاط فائق حتى عبر الستين، وعند ذاك تساءل: وبعد؟!
وفكر طويلا ثم قال لحكمت: مللت العمل وآن لنا أن نستمتع بأموالنا.
فتساءلت ببراءة: ماذا ينقصك؟
فضحك ساخرا وقال: السياحة، علينا بالسياحة، سنرى الدنيا ونذوق أجمل ما فيها.
فارتبكت. إنها لم تعرف من دنياها إلا قرية أبيها وبين الجناين ولا رغبة لها في المزيد.
ولما لمس حيرتها قال: لن تحتاجي معي إلى ترجمان.
وقال لنفسه: إذا كرهت الفكرة مضيت لها وحدي. ولكنها كالعادة طاوعته ومضت تجهز الحقائب. وانطلقت من جوفه شرارة شك فتأمل ما حوله قليلا ثم قال لنفسه: لا يبعد أن تحترق بنا الطائرة، إني خبير بمنطق الحوادث!
ولكن الطيارة لم تحترق والوساوس لم تخمد.
عمرو عزيز يزيد المصري
ولد ونشأ في بيت الغورية، بين رشوانة وسرور، وتشرب قلبه رحيق الحي بحب وشغف، فاختالت في نفسه تقاليد أهل البلد، وانتشر من أردانه عبير الروح والدين. ولعله كان أحب الثلاثة إلى عزيز ونعمة لشبهه بأبيه بجسمه المليء في اعتدال وبشرته القمحية وعينيه الواسعتين الصافيتين. وكان العقل المدبر الكابح لرشوانة وسرور في لعبهم وتجوالهم بين بوابة المتولي وسبيل بين القصرين ، وعرف فيما بعد بالحكيم الذي يرجع إلى رأيه في شتى الأمور. وحظي بنفس المنزلة بين خاليه محمود وأحمد وابن عمه عبد العظيم. وقد أخلص لفرائض الدين منذ صغره، ولعب دور الشرطي في حياة سرور المحفوفة بالنزوات. ودخل الكتاب فحفظ ما تيسر له من القرآن الكريم، وتعلم مبادئ القراءة والكتابة، ثم دخل المدرسة الابتدائية في الثانية عشرة من عمره فحصل على الابتدائية بعد بذل أقصى ما يملك للتعلم. وبسعي من داود باشا عين في حسابات نظارة المعارف. وحاز دائما تقدير الرؤساء والزملاء، وأثرى حياته بصداقة الأصدقاء، ونورها بقراءة القرآن وكتب الأولياء، ونوع مجال حركته بأريحية معطرة بحب الدين والدنيا، فكان يشهد الأذكار في الصنادقية، ويسمع الحامولي في الأفراح، ويجالس الأحباب في الكلوب المصري. وكان هادئ الطبع، ينال بالحلم ما لا يناله بالقوة والغضب، وما كان أبوه يزكي له فكرة الزواج حتى رحب بها ترحيب شاب قوي تقي. وتم اختيار راضية له، كبرى بنات الشيخ معاوية صديق أبيه، فزفت إليه في بيت حديث البناء بميدان بيت القاضي، حيث استهل حياة زوجية موفقة مثمرة، وجد في راضية شخصية مناقضة لذاته، بعصبيتها وعنادها، وغيبياتها التي لا ضابط لها، ولولا هدوء طبعه وحلمه ما جرت الأمور في مجراها الآمن مع عدم إهدار شيء من مهابته في بيته. ولكنه لم ينج من تأثيرها فآمن بتراثها وطبها الشعبي، واضطر إلى أن يسمح لها بزيارة أضرحة الأولياء، رغم أنه كان يفضل أن تستكن في بيتها أسوة بزينب امرأة أخيه والهوانم زوجات محمود وأحمد وعبد العظيم. قالت له في اختيال: كلهن هوانم طيبات، ولكنهن جاهلات لا شأن لهن بأمور الغيب.
Shafi da ba'a sani ba