وكان آل عطا وآل عزيز يتبادلون الزيارات، ويختلط عمرو وسرور ورشوانة بمحمود وأحمد ، ويقلب عزيز عينيه في الحديقة والتحف ويغمغم في نفسه: سبحان المنعم الوهاب!
ويقول لصديقه الشيخ معاوية: إنه جلف لا يستحق النعمة.
فيقول الشيخ: لله في خلقه شئون!
وفي أثناء ذلك، رجع داود من فرنسا طبيبا، ثم تزوج من حفيدة الوراق وأقام في بيت السيدة وأنجب عبد العظيم. وعلم عزيز أفندي ابنيه عمرو وسرور فتعين عمرو في نظارة المعارف كما تعين سرور في السكك الحديدية، وتزوجت رشوانة من صادق بركات تاجر الدقيق بالخرنفش وزفت إليه في بيته ب «بين القصرين»، وتزوج عمرو من راضية كبرى بنات الشيخ معاوية، كما تزوج سرور من زينب النجار، وانتقل الأخوان إلى بيتين متجاورين في ميدان بيت القاضي. ولما قامت الثورة العرابية اشترك فيها عزيز بقلبه ولكن الشيخ معاوية أسهم بقلبه ولسانه، وحكم عليه بالسجن بعد تصفية الثورة.
وقد تم زواج عمرو من راضية في الفترة التي أعقبت الإفراج عن الشيخ، ولكن لم يتسن للشيخ شهود الزفاف، فقد وافاه الأجل بعد أسبوع من إعلان الخطبة وقراءة الفاتحة. وحظي عزيز أفندي بالصحة وطول العمر والراحة الزوجية ولم يعان الفقر أو الحرمان، وتمتع بدفء الوشائج العائلية ما بين ميدان خيرت والسيدة وسوق الزلط، وتقدست منزلته عند ذريته كما فرح بتعليمهم وانتسابهم إلى الحكومة وخطرانهم في البدلة والطربوش. ولم يخل مع الأيام من اعتزاز بمنزلة شقيقه الأصغر ورتبته، خاصة بعد أن اطمأن إلى إيمانه ومحافظته على الفرائض وولائه الودود له، وجلوس الأسرتين حول الطبلية، كما آنسه بالزيارة وطوافه معه بالحسين والقرافة. ومن الله عليه فشهد مولد أحفاده، وأكرمه أخيرا بميتة طاهرة، فأسلم الروح وهو ساجد فوق سجادة الصلاة في صباح يوم من أيام الخريف في بيت الغورية ... ودفن إلى جوار أبيه في حوش الأسرة الذي أصبح يعرف بحوش نجم الدين.
عفت عبد العظيم داود
ولدت ونشأت بفيلا الأسرة بشارع السرايات بالعباسية الشرقية. وبها ختم عبد العظيم باشا داود وفريدة حسام ذريتهما المكونة من لطفي وغسان وحليم وفهيمة وعفت. ولدت عفت على وسامة لا يستهان بها، امتزج في وجنتيها بياض أمها الشامية وسمرة أبيها فأسفرا عن لون قمحي مورد وعينين لوزيتين سوداوين لا تخلو نظرتهما من تسلط ومكر، وتقلبت في نعيم في فيلا أنيقة تحدق بها الرتب والنياشين فنهضت - كسائر أعضاء أسرتها - على قوائم راسخة من الكبرياء والتعالي والغرور ... ومن بادئ الأمر لم يرض الأب لكريمتيه الأمية أو شبه الأمية كبنات الفروع الأخرى، كما لم يفكر في تعليمهما تمهيدا للعمل، الأمر الذي رآه أولى ببنات الفقراء من عامة الشعب، فاختار لهما التعليم التهذيبي في نظره الذي يعدهما للزواج من الكبراء. ووجد بغيته في المدارس الأجنبية والميردي دييه بصفة خاصة. وتعلمت عفت الفرنسية والإنجليزية والآداب وفن البيت والموسيقى، وتشربت روحها بتراث غريب حتى ليخيل للرائي أنها إفرنجية ذوقا وعقلا وتراثا. ومع أنها لم تنطق بكلمة تخدش إيمانها إلا أنها عاشت حياتها وهي تجهل دينها وتراثها جهلا تاما، ولا تجد في ذاتها أي انتماء إلى وطنها رغم معايشتها لثورة 1919، لولا تعصب سطحي لموقف أبيها السياسي انطلقت إليه من منطلق الكبرياء والأسرة. ولكن الغريزة تمردت على ذلك كله فأمالت قلبها منذ الصغر نحو عامر قريب أبيها. في ذلك الزمان كانت رابطة الأسرة أقوى من الطبقة والرتبة والجاه والثروة، وكانت زيارة بيت القاضي تعد في وجدان آل داود من الرحلات الممتعة، بمناظرها الطريفة وأغذيتها البلدي وغيبيات راضية، رغم أن شعورهم بالتعالي لا يمكن أن يفارقهم. ولم يجد الميل المتبادل بين عامر وعفت معارضة في بيت عبد العظيم، بل لعله وجد ترحيبا. وعلى أي حال فالنظرة إلى البنت تختلف عن النظرة إلى الولد، فإهداء بنتهم إلى ولد من آل عمرو لا بأس من قبوله، أما أن يرغب ولد من آل داود في بنت من بنات عمرو أو سرور فانحراف خطير يجب أن يكبح بكل حزم. ودماثة أخلاق عمرو هونت عليه التسامح مع ذلك الموقف وتلمس الأعذار له، أما سرور فلم يعفه من لسانه الحاد الذي أبعده درجات عن قلوب آل المراكيبي وآل داود جميعا. كان عند الضرورة يقول متهكما: لماذا ينسى آل عطا العظام المراكيب ودكان الصالحية؟ ... ولماذا ينسى آل داود عم يزيد وفرجة السماك؟
ولما آن لعفت أن تتزوج شيد لها الباشا بيتا جميلا في بين الجناين استقبلت فيه حياتها الزوجية السعيدة التي حطمت منطق أعداء الزواج. أجل فمنذ اليوم الأول سلكت عفت سلوك أميرة وضعتها الظروف بين الرعية، فلم تخل الحياة الجديدة من توترات بين عفت وأخوات عامر، أو بنات سرور، أو شكيرة عندما صارت سلفة لها، بل حتى راضية نفسها على ما بينها وبين فريدة حسام من مودة، ولكن لم ينعقد الخصام لحد القطيعة أو العداوة، وغلب دائما هوى المودة القديمة الراسخة، أما ما بين الزوجين فقد مضى في عذوبة وسلام، وتسليم كلي من جانب عامر لإرادة محبوبته القوية فلم يرتفع له صوت غضب أكثر من مرات معدودات، ولم يبيتا أبدا على خصام. وقد أنجبت له شاكر وقدري وفايد، ولم تستطع أن تمد فوقهم مظلة سطوتها، فجرح شاكر كبرياءها، وحرك قدري مخاوفها وإشفاقها، ولكن ثلاثتهم كانوا أمثلة طيبة للنجابة والنجاح. وقامت ثورة يوليو وتعاقبت الهزائم ثم هل النصر والسلام وتجمعت سحب الفتن والجريمة، وهي لائذة بحصن المتفرج لا يعنيها شيء إلا بقدر أثره المباشر على أسرتها أو أبنائها. وتقدم بها العمر وهدأت نوازع كبريائها ونعمت رغم جريان الأحداث برفقة حبيب العمر والأبناء والأحفاد، حتى غاب عامر عن دنياها في غمضة عين وهو يحادثها، ومن ثم استقبلت حياة صامتة تعلوها كآبة دائمة.
عطا المراكيبي
في الأصل كان صبيا في دكان الصالحية لصاحبها المغربي جلعاد المغاوري، التقطه الرجل يتيما ورباه وأذن له بالبيات في دكانه، وأثبت الصبي جدارة وأمانة، ولزم صاحبه حتى صار شابا يافعا قوي الجسم ربعة غليظ القسمات ضخم الرأس، فزوجه من ابنته الوحيدة سكينة وجعله نائبه في الدكان. وأقام معه في مسكن الغورية جارا للمعلم يزيد وابنه عزيز. ولما رحل جلعاد وزوجه، ورثت سكينة الدكان شرعا وورثها عطا فعلا، وكان متحليا بأخلاق التجار الدمثة يغطي بها خشونة سجاياه، فأمكنه أن يكون صديقا ليزيد والشيخ القليوبي. أما سكينة فكانت على قدر من الوسامة وبنيان هلهله الضعف، فتلكأ إنجابها فترة، ثم أنجبت نعمة عقب ولادة عسيرة كادت تبذل فيها حياتها. وورثت نعمة عن أمها عينيها السوداوين النجلاوين ونعومة بشرتها السمراء، وغزارة شعرها الكستنائي مع صحة جيدة. وكانت سكينة جارة حسنة الجوار ففازت بقلب فرجة السماك ومهدت بذلك الطريق لزواج نعمة من عزيز في الوقت المناسب. وجمع مقهى الشربيني بالدرب الأحمر بين الشيخ القليوبي ويزيد وعطا ليلة بعد أخرى، وشهد الرجال نابليون بونابرت على جواده وهو يسير على رأس جنوده أمام المشهد الحسيني، وعاصروا تقلبات حملته، وخاصة ثورتي القاهرة، وكاد يزيد يهلك في الثورة الثانية، وعاصروا بعد ذلك ولاية محمد علي ومذبحة المماليك. والثورة التي أحدثها الوالي في البلد وأهله. ورغم أن الشيخ القليوبي كان يمتاز بثقافته الدينية إلا أن الوشائج الشعبية والتراثية كانت تقربه من وجدان صاحبيه، ولم يغب عنه ما طبعا عليه من حرص وجهل، ولكنه كان يأخذ الناس على علاتها ويقنع منها بالجانب الأليف والمودة المتاحة. وقد دعاهما مرات إلى بيت سوق الزلط في مقابل مرة يتيمة دعي فيها إلى بيت الغورية، وكان يزيد أحب إليه من عطا، ولمس فيه أركانا من الرجولة والشهامة والتقوى افتقدها في الآخر، ومع ذلك لم يضق أبدا بعطا ولا فكر في نبذه. وظل عطا على حاله من القناعة والرقة حتى توفيت امرأته سكينة بعد عام من زواج ابنتها نعمة من عزيز أفندي ابن المعلم يزيد. وإذا بالحي كله يفاجأ بزواجه من الأرملة الثرية هدى الألوزي. كانت تقيم في بيتها العتيق على الجانب المواجه لدكان المراكيبي فهل كان للقصة تمهيد قديم لم يفطن إليه أحد؟ وقال القليوبي ليزيد: ستحدث أمور، لا يمكن أن توافق هدى هانم على بقاء زوجها في دكانه.
Shafi da ba'a sani ba