وإنما طلب الماديات مظهر من مظاهر النفس، وعاطفة من عواطفها. ومن أجل ذلك يكثر البحث في النفس، وعواملها، وبواعثها، وعللها، وأمانيها، وصفاتها من فضائل ورذائل، عند بدء نهضات الأمم؛ لأن كل خلق في حياة الناس يأتي قبله نقد وبحث، يهدم ويفسح له مكانا للبناء، والنهضات من مظاهر البناء، وكل نهضة أولها هدم، وآخرها بناء.
ومن أمثال هذا البحث النفسي الذي يأتي عند ظهور الأمم، ما كتب في الشعر التمثيلي الذي هو بحث في بواعث النفوس في عهد الملكة «إليزابث»، في بدء نهضة إنكلترة. وكذلك شعر «أسكيل» في بدء نهضة إنكلترة، وكذلك شعر «أسكيل» في بدء نهضة أثينا، وشعر «جيتي» و«شيلر» في بدء عصر الاضمحلال. وذلك حين تلوح مظاهر الضعف، فيكثر البحث النفسي. وشاهد ذلك شعر «يوربيد»، الذي هو بحث في النفس وتساؤل وشك.
وحيث إن حياة الأمم أدوار، أمل ويأس، يكونان فيها بمنزلة المد والجزر، كذلك شعر الأمة يعبر عن أدوار حياتها، انظر كيف يعبر شعر «شيلي» عن الآمال التي أنتجتها نهضة الثورة الفرنسية، وكيف أن شعر «بيرون» يعبر عن الغضب الشديد، والتضجر الذي كان سببه نأي تلك الآمال.
وقد بدأ يكثر في آداب اللغة العربية البحث النفسي، والتساؤل، والتفكير، والتعبير عن حركات النفس وبواعثها، ولكن كل ذلك - لم يزل بعد - قطرة، لا تعرف إن كان وراءها سيل آت.
وهذا الكتاب فيه شيء كثير من البحث النفسي، والتساؤل، والشك، والسخر، الذي هو محرك يحرك النفوس ويوقظها. فهو يعبر عن تلك الدنيا التي في كل نفس. ففي فصل نصيحة إبليس مثلا ترى السخر المودع في هذا الباب ما أرمي إليه من بيان معاني تلك النفوس الجامدة القبيحة، التي تشبه مباول الطرق.
وقد جعلت «إبليس» ينصح بما ينبغي الانتهاء عنه، وهذا ما يقتضيه الذوق الفني الصحيح، وقد لامني في ذلك بعض ضئال الأفهام، أولي الذوق الفاسد الذين يريدون أن أجعل أقوال «إبليس»، مثل أقوال الأتقياء من مشايخ الأزهر الشريف، فأجعل «إبليس» يحض على الأخذ بالفضيلة والإيمان. وهذا خطل في الرأي، فإن أقوال «إبليس» ينبغي أن تعبر عن نفسه، لا عن الحقيقة المطلقة، أو عما نراه نحن حقيقة.
وكذلك الأديب المسيحي الصادق في مسيحيته، إذا ألف كتابا ووصف فيه فيمن وصف يهوذيا، جعل أقوال اليهوذي تعبر عن نفسه، لا عما يراه المسيحي حقيقة، انظر مثلا إلى قصة «الفردوس المفقود»، تأليف الشاعر «ملتون». و«ملتون» من زعماء المتطهرين المسيحيين، فإنه جعل أقوال «إبليس» تعبر عن بواعث نفسه وعواطفها، وإنما مهارة الأديب في دقة التعبير عن تلك البواعث، وفائدة قراءة وصف أمثال هذه البواعث لا تنكر؛ إذ إنها تنير الذهن، وتؤدي إلى سعة في التخيل، والفهم، وكبر العقل.
وكذلك صحة الذوق الفني تقتضي أن لا يكون كل ما يقوله «إبليس» باطلا؛ فإننا نجد أحيانا الشرير يصيب الرأي الرجيح من حيث يخطئ صاحب الخير، بل إن صفات الشر التي في نفسه قد تجعل ذلك الجانب من جوانب الحق والصواب أقرب إلى ذهنه منه إلى ذهن صاحب الخير.
ومن أجل ذلك جعلت «إبليس» ناقد النفس، يظهر عيوبها، ويغري باليأس منها، بينما محدثه من الناس يستفيد من هذا النقد معرفة تلك العيوب، والرغبة في محوها. فإبليس إذا مزج كذبه بالصدق إنما يفعل ذلك كي يكون كذبه أعظم تأثيرا. فهو يجتهد أن يضل محدثه في «حجة إبليس»، و«نصيحة إبليس»، وفي «رقص الضمائر»، وفي «طرق الانتحار»، وفي «وصف الجحيم»، وفي «دولة البغال»، وفي «مؤتمر الحيوانات»، وفي «اختراع التقبيل»، ولكنه يريد أن يضله بالصدق، كما يريد أن يضله بالكذب.
وخدع إبليس وتغريره بمنزلة النار التي تصقل النفوس. وإنما يصفو الذهب الإبريز بالسكب، ولكن بعض النفوس مثل التبن الذي تأكله البهائم، فإذا أدخل النار احترق.
Shafi da ba'a sani ba