بسم الله الرحمن الرحيم وبه الاستعانة نحمدك يا من أطلع في فلك الهداية شمس النبوة، وقمر الولاية، ونصلي على قطب مداره وآله، أهلة سماء الاهتداء، ونسلم تسليما كثيرا. وبعد:
فيقول أقل الخلائق محمد المشتهر بهاء الدين العاملي عامله الله بإحسانه:
هذه الحديقة الثالثة والأربعون من كتابنا الموسوم بحدائق الصالحين في شرح صحيفة مولانا وإمامنا قبلة أهل الحق واليقين علي بن الحسين زين العابدين سلام الله عليه وعلى آبائه الطاهرين، تتضمن شرح الدعاء الثالث والأربعين، وهو دعاؤه عليه السلام عند الاستهلال أمليتها مع وفور الملال، لتوزع البال، واختلال الحال، راجيا من الله تعالى أن يوفقني لإكمال بقية الحدائق، إنه مفيض الخير وملهم الحقائق.
وكان من دعائه عليه السلام إذا نظر إلى الهلال:
سمي هلالا لجريان عادتهم برفع الأصوات عند رؤيته، مأخوذ من الإهلال، وهو رفع الصوت، ومنه قولهم: أهل المعتمر، إذا رفع صوته بالتلبية، واستهل الصبي إذا صاح عند الولادة.
وقد اضطربوا في تحديد الوقت الذي يسمى فيه بهذا الاسم، فقال في
Shafi 65
" الصحاح ": الهلال أول ليلة، والثانية والثالثة، ثم هو قمر (1).
وزاد صاحب القاموس فقال [4 / أ]: الهلال غرة القمر، أو إلى ليلتين، أو إلى ثلاث، أو إلى سبع، ولليلتين من آخر الشهر ست وعشرين وسبع وعشرين، وفي غير ذلك قمر (2). إنتهى.
قال الشيخ الجليل أبو علي الطبرسي (3) نور الله مرقده - في تفسيره الموسوم بمجمع البيان عند قوله تعالى: * (يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج) * (4) -: اختلفوا في أنه إلى كم يسمى هلالا، وإلى كم يسمى قمرا؟.
فقال بعضهم: يسمى هلالا لليلتين من الشهر، ثم لا يسمى هلالا إلى أن يعود في الشهر الثاني.
وقال آخرون: يسمى هلالا ثلاث ليال، ثم يسمى قمرا.
وقال آخرون: يسمى هلالا حتى يحجر، وتحجيره أن يستدير بخيط دقيق; وهذا قول الأصمعي (5).
Shafi 66
وقال بعضهم: يسمى هلالا حتى يبهر ضوؤه سواد الليل، ثم يقال قمرا، وهذا يكون في الليلة السابعة (1). إنتهى كلامه زيد إكرامه.
ولا يخفى أن قوله - وهذا يكون إلى آخره - يخالف بظاهره (2) قول صاحب القاموس " أو إلى سبع "، ووجه التوفيق بينهما غير خفي (3).
قالوا: وإنما يسمى بعد الهلال قمرا لبياضه، فإن الأقمر هو الأبيض (4).
وقيل: لأنه يقمر الكواكب، أي يغلبها بزيادة النور.
ويسمى في الليلة الرابعة عشرة بدرا، قال في الصحاح: سمي بذلك لمبادرته الشمس في الطلوع كأنه يعجلها المغيب (5).
وقال بعضهم: سمي بدرا لكماله، تشبيها له بالبدرة الكاملة وهي عشرة آلاف درهم (6).
Shafi 67
مقدمة:
لا ريب في استحباب الدعاء عند رؤية الهلال، تأسيا بالنبي صلى الله عليه وآله، وقد فعله أمير المؤمنين عليه السلام، والأئمة من ولده سلام الله عليهم (1) [4 / ب].
وذهب ابن أبي عقيل (2) رحمه الله إلى وجود الدعاء عند رؤية هلال شهر رمضان (3).
وهو قول نادر لا نعلم له فيه موافقا، وربما حمل قوله بالوجوب على إرادة تأكيد الاستحباب صونا له عن مخالفة الجمهور.
والدعاء الذي أوجبه هو هذا:
" الحمد لله الذي خلقني وخلقك، وقدر منازلك، وجعلك مواقيت للناس; اللهم أهله علينا إهلالا مباركا; اللهم أدخله علينا بالسلامة والإسلام، واليقين والإيمان، والبر والتقوى، والتوفيق لما
Shafi 68
تحب وترضى ".
وكأنه - قدس الله روحه - وجد الأمر بهذا الدعاء في بعض الروايات فحمله على الوجوب، كما هو مقرر في الأصول، ولم يلتفت إلى تفرده بين الأصحاب رضوان الله عليهم بهذا الحكم.
وهذا كحكمه - رحمه الله - بعدم انفعال الماء القليل بملاقاة النجاسة ما لم يتغير (1)، ولا يعرف به قائل، من أصحابنا رضي الله عنهم، سواه.
وحسن الظن به - أعلى الله قدره - يعطي أنه لم ينعقد في عصره إجماع على ما يخالف مذهبه في المسألتين، أو أنه انعقد ولم يصل إليه، والله أعلم بحقيقة الحال.
تتمة:
يمتد وقت الدعاء بامتداد وقت التسمية هلالا، والأولى عدم تأخيره عن الأولى، عملا بالمتيقن المتفق عليه لغة وعرفا. فإن لم يتيسر فعن الثانية; لقول أكثر أهل اللغة بالامتداد إليها; فإن فاتت فعن الثالثة; لقول كثير منهم بأنها آخر لياليه.
وأما ما ذكره صاحب القاموس، وشيخنا الشيخ أبو علي رحمه الله - من إطلاق الهلال عليه إلى السابعة - (2) فهو خلاف المشهور لغة وعرفا، وكأنه مجاز ، من قبيل إطلاقه عليه في الليلتين الأخيرتين، والله أعلم.
Shafi 69
تبصرة:
حكم العلامة (1) - أعلى الله مقامه - باستحباب الترائي للهلال ليلتي الثلاثين من شعبان وشهر رمضان على الأعيان، وبوجوبه فيهما على الكفاية.
واستدل - طاب ثراه على الوجوب - بأن الصوم [5 /] واجب في أول شهر رمضان، وكذا الإفطار في العيد، فيجب التوصل إلى معرفة وقتهما، لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب (2). هذا كلامه زيد إكرامه.
وأقول: للبحث فيه مجال، لأنه إنما يجب صوم ما يعلم أو يظن أنه من شهر رمضان، لا ما يشك في كونه منه، وهكذا إنما يجب إفطار ما يعلم أو يظن أنه العيد، لا ما يشك في أنه هو (3)، كيف والأغلب في الشهر أن يكون تاما (4)، كما يشهد به التتبع؟!.
Shafi 70
هداية:
الأدعية المأثورة عند النظر إلى الهلال كثيرة، فبعضها يعم كل الشهور، وبعضها يختص بشهر رمضان.
فمن القسم الأول:
ما رواه الشيخ الصدوق، عماد الإسلام، محمد بن علي بن بابويه (1) رحمه الله في كتاب من لا يحضره الفقيه; ورواه أيضا شيخ الطائفة، أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي (2) عطر الله تربته، في كتاب تهذيب الأخبار، ومصباح المتهجد، عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال: " إذا رأيت الهلال فلا تبرح، وقل:
(اللهم إني أسألك خير هذا الشهر، وفتحه ونوره، ونصره، وبركته، وطهوره ورزقه; وأسألك خير ما فيه وخير ما بعده، وأعوذ
Shafi 71
بك من شر ما فيه وشر ما بعده; اللهم أدخله علينا بالأمن والإيمان، والسلامة والإسلام والبركة، والتوفيق لما تحب وترضى) " (1).
ومنه ما رواه الشيخ الصدوق أيضا، في كتاب عيون أخبار الرضا عليه السلام، عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: " كان رسول الله صلى الله عليه وآله إذا رأى الهلال قال: " أيها الخلق المطيع، الدائب السريع، المتصرف في ملكوت الجبروت بالتقدير، ربي وربك الله. اللهم أهله علينا بالأمن والإيمان، والسلامة والإسلام والإحسان، وكما بلغتنا أوله فبلغنا آخره، واجعله شهرا مباركا، تمحو فيه السيئات، وتثبت لنا فيه الحسنات، وترفع لنا فيه الدرجات، يا عظيم الخيرات) " (2).
ومنه ما أورده السيد الجليل الطاهر، ذو المناقب والمفاخر، رضي الدين علي بن طاووس (3) قدس الله نفسه، ونور رمسه، في كتاب الزوائد
Shafi 72
والفوائد (1). وهو أن يقول عند رؤيته [6 /]: " ربي وربك الله رب العالمين.
اللهم صل على محمد وآل محمد، وأهله علينا وعلى أهل بيوتاتنا، وأشياعنا بأمن وإيمان، وسلامة وإسلام، وبر وتقوى، وعافية مجللة، ورزق واسع حسن، وفراغ من الشغل، واكفنا بالقليل من النوم، ووفقنا للمسارعة فيما تحب وترضى وثبتنا عليه; اللهم بارك لنا في شهرنا هذا، وارزقنا بركته وخيره، وعونه وغنمه، ونوره ويمنه، ورحمته ومغفرته، واصرف عنا شره وضره، وبلاءه وفتنته; اللهم ما قسمت فيه من رزق أو خير أو عافية أو فضل، أو مغفرة أو رحمة فأجعل نصيبنا منه الأكثر، وحظنا فيه الأوفر " (2).
ومنه ما أورده أيضا في الكتاب المذكور وهو أن يقول عند رؤيته:
" الله أكبر - ثلاثا - ربي وربك الله لا إله إلا هو رب العالمين،
Shafi 73
الحمد لله الذي خلقني وخلقك، وقدرك منازل، وجعلك آية للعالمين، يباهي الله بك الملائكة; اللهم أهله علينا الأمن والإيمان، والسلامة والإسلام، والغبطة والسرور، والبهجة والحبور، وثبتنا على طاعتك، والمسارعة فيما يرضيك; اللهم بارك لنا في شهرنا هذا، وارزقنا خيره وبركته، ويمنه وعونه وقوته، واصرف عنا شره وبلاءه وفتنته، برحمتك يا أرحم الراحمين " (1).
ومن القسم الثاني:
ما رواه ركن الملة، ثقة الإسلام، محمد بن يعقوب الكليني (2) - سقى الله ضريحه صوب الرضوان - في كتاب الكافي; ورواه آية الله العلامة طاب ثراه في التذكرة، ومنتهى المطلب; عن الإمام أبي جعفر محمد بن علي الباقر عليهم السلام قال: " كان رسول الله صلى الله عليه وآله إذا أهل شهر رمضان استقبل القبلة ورفع يديه فقال: (اللهم أهله علينا بالأمن والإيمان، والسلامة والإسلام والعافية المجللة، والرزق الواسع، ودفع الأسقام; اللهم ارزقنا صيامه وقيامه وتلاوة القرآن فيه، وسلمه لنا،
Shafi 74
وتسلمه منا، وسلمنا فيه) " (1).
ومنه ما أورده الشيخ الصدوق طاب ثراه في كتاب من لا يحضره الفقيه أيضا، نقلا عن أبيه رضي الله عنه في الرسالة - وذكر السيد الجليل الطاهر المشار إليه [7 /] أنه مروي عن الصادق عليه السلام - قال: إذا رأيت هلال شهر رمضان فلا تشر إليه، ولكن استقبل القبلة وارفع يديك إلى الله عز وجل وخاطب الهلال، وقل: " ربي وربك الله رب العالمين; اللهم أهله علينا بالأمن والإيمان، والسلامة والإسلام، والمسارعة إلى ما تحب وترضى; اللهم بارك لنا في شهرنا هذا، وارزقنا عونه وخيره، واصرف عنا ضره وشره، وبلاءه وفتنته " (2).
تنبيه:
يستفاد من هذه الروايات بعض الآداب التي ينبغي مراعاتها حال قراءة الدعاء عند رؤية الهلال:
فمنها: أن تكون قراءة الدعاء قبل الانتقال من المكان الذي رأى فيه الهلال، كما تضمنته الرواية الأولى، فإن قوله عليه السلام " لا تبرح " أي لا تزل عن مكانك الذي رأيته فيه (3).
ومنها: استقبال القبلة حال الدعاء، كما تضمنه الحديث المروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أنه كان يفعل ذلك (4).
ومنها: رفع اليدين إلى الله عز وجل وقت قراءة الدعاء، كما تضمنه الحديثان الأخيران (5).
Shafi 75
ولا خصوصية لهذين الأمرين بهلال شهر رمضان، وإن تضمن الخبران أن فعل النبي صلى الله عليه وآله ذلك كان في هلاله، وكذلك أمر الصادق عليه السلام بذلك، بل لا خصوصية لهما بدعاء الهلال، فإنهما يعمان كل دعاء [8 /].
ومنها: أن لا يشير إلى الهلال بيده ولا برأسه، ولا بشئ من جوارحه، كما تضمنته الرواية الأخيرة (1)، ولعل هذا أيضا غير مختص بهلال شهر رمضان.
ومنها: أن يخاطب الهلال بالدعاء، ولعل المراد خطابه بما يتعلق به من الألفاظ، نحو " ربي وربك الله رب العالمين " وكأول الدعاء الذي أوجبه ابن أبي عقيل رحمه الله (2)، وكأكثر ألفاظ هذا الدعاء الذي نحن بصدد شرحه.
وقد يظن التنافي بين مخاطبة الهلال واستقبال القبلة في البلاد التي قبلتها على سمت المشرق.
وليس بشئ، لأن الخطاب ليس إلا توجيه الكلام نحو الغير للإفهام، وهو لا يستلزم مواجهة المخاطب واستقباله، إذ قد يخاطب الإنسان من هو وراءه.
ويمكن أن يقال: استقبال الداعي الهلال وقت قراءة ما يتعلق بمخاطبته من فصول الدعاء، واستقبال القبلة في الفصول الأخر.
وأما رفع اليدين فالظاهر أنه في جميع الفصول، وإن كان تخصيصه بما عدا الفصول المخاطب بها الهلال غير بعيد، والله أعلم.
تذكرة فيها تبصرة:
قد عرفت أنه يمتد وقت الدعاء بامتداد وقت التسمية هلالا، ولو قيل بامتداد ذلك إلى ثلاث ليال لم يكن بعيدا، فلو نذر قراءة دعاء الهلال عند
Shafi 76
رؤيته، وقلنا بالمجازية فيما فوق الثلاث [9 / أ]، لم تجب عليه القراءة برؤيته فيما فوقها، حملا للمطلق على الحقيقة; وهل تشرع؟ الظاهر نعم إن رآه في تتمة السبع، رعاية لجانب الاحتياط، أما فيما فوقها فلا، لأنه تشريع.
ولو رآه يوم الثلاثين فلا وجوب على الظاهر لعدم تسميته حينئذ هلالا.
وما في حسنة حماد بن عثمان (1) - عن الصادق عليه السلام من إطلاق اسم الهلال عليه قبل الغروب (2) - لعله مجاز، إذ الأصل عدم النقل.
ولو لم يره حتى مضت الثلاث فاتفق وصوله إلى بقعة شرقية هو فيها هلال فرآه هناك لم يبعد القول بوجوبه عليه حينئذ، كما لا يبعد القول بوجوب الصوم على من رأى هلال شهر رمضان فصام ثلاثين ثم سافر إلى بلد مضى فيه من شهر رمضان تسعة وعشرون ولم ير فيه الهلال ليلة الثلاثين، وهو مختار العلامة طاب ثراه في القواعد (3).
وقد استدل عليه - ولده فخر المحققين (4) رحمه الله في الإيضاح - بأن
Shafi 77
الاعتبار في الأهلة بالموضع الذي فيه الشخص الآن لا بموضع كان يسكنه، وإلا لوجب على الغائب عن بلده الصوم برؤية الهلال في بلده، وهو باطل إجماعا (1)، هذا ملخص كلامه.
وأقول: فيه بحث، فإن من اعتبر موضوعا كان يسكنه لم يعتبره من حيث سبق سكناه فيه، بل من حيث رؤيته الهلال فيه سابقا فكلفه العمل بمقتضى تلك الرؤية، فمن أين يلزمه وجوب الصوم على الغائب عن بلده برؤية غيره الهلال فيه؟! فتأمل.
بسط كلام لإبراز مرام:
تحقق أمثال هذه المسائل المبنية على تخالف الآفاق في تقدم طلوع الأهلة وتأخرها ظاهر، بناء على ما ثبت من كروية الأرض، والذين أنكروا كرويتها فقد أنكروا تحققها، ولم نطلع لهم على شبهة في ذلك فضلا عن دليل .
والدلائل الآتية المذكورة في المجسطي (2) - وغيره - شاهدة بكرويتها، وإن كانت شهادة الدليل اللمي المذكور في الطبيعي مجروحة [9 / ب].
وقد يتوهم أن القول بكرويتها خلاف ما عليه أهل الشرع، وربما استند ببعض الآيات الكريمة كقوله تعالى: * (الذي جعل لكم الأرض
Shafi 78
فراشا) * (1)، وقوله سبحانه: * (ألم نجعل الأرض مهادا) * (2) وقوله جل شأنه: * (وإلى الأرض كيف سطحت) * (3)، وأمثال ذلك، ولا دلالة في شئ منها على ما ينافي الكروية.
قال في الكشاف عند تفسير الآية الأولى، فإن قلت: هل فيه دليل على أن الأرض مسطحة وليست بكرية؟.
قلت: ليس فيه إلا أن الناس يفترشونها كما يفعلون بالمفارش، وسواء كانت على شكل السطح أو الشكل الكرة فالافتراش غير مستنكر ولا مدفوع; لعظم حجمها، واتساع جرمها، وتباعد أطرافها. وإذا كان متسهلا في الجبل وهو وتد من أوتاد الأرض، فهو في الأرض ذات الطول والعرض أسهل (4).
إنتهى كلامه.
وقال (5) في التفسير الكبير: من الناس من يزعم أن الشرط في كون الأرض فراشا أن لا تكون كرة، فاستدل بهذه الآية على أن الأرض ليست كرة، وهذا بعيد جدا، لأن الكرة إذا عظمت جدا كان كل قطعة منها كالسطح (6)، انتهى.
وكيف يتوهم متوهم أن القول بكروية الأرض خلاف ما عليه أهل الشرع!! وقد ذهب إليه كثير من علماء الإسلام، وممن قال به صريحا من فقهائنا - رضوان الله عليهم - العلامة آية الله، وولده فخر المحققين قدس سرهما.
Shafi 79
قال العلامة في التذكرة: إن الأرض كرة، فجاز أن يرى الهلال في بلد ولا يظهر في آخر; لأن حدبة الأرض مانعة لرؤيته، وقد رصد ذلك أهل المعرفة، وشوهد بالعيان خفاء بعض الكواكب الغريبة لمن جد في السير نحو المشرق وبالعكس (1)، إنتهى كلامه زيد إكرامه [10 / أ].
وقال فخر المحققين في الإيضاح: الأقرب أن الأرض كروية; لأن الكواكب تطلع في المساكن الشرقية قبل طلوعها في المساكن الغربية، وكذا في الغروب.
فكل بلد غربي بعد عن الشرقي بألف ميل يتأخر غروبه عن غروب الشرقي بساعة واحدة.
وإنما عرفنا ذلك بأرصاد الكسوفات القمرية، حيث ابتدأت في ساعات أقل من ساعات بلدنا في المساكن الغربية، وأكثر من ساعات بلدنا في المساكن الشرقية، فعرفنا أن غروب الشمس في المساكن الشرقية قبل غروبها في بلدنا، وغروبها في المساكن الغربية بعد غروبها في بلدنا، ولو كانت الأرض مسطحة لكان الطلوع والغروب في جميع المواضع في وقت واحد.
ولأن السائر على خط من خطوط نصف النهار على الجانب الشمالي يزداد عليه ارتفاع القطب الشمالي وانخفاض الجنوبي، وبالعكس (2)، انتهى كلامه رفع الله مقامه; وهو خلاصة ما ذكره صاحب المجسطي، وغيره في هذا الباب.
ولا يخفى أن قوله رحمه الله: ولأن السائر، إلى آخره، من تتمة الدليل; لأن اختلاف المطالع والمغارب لا يستلزم كروية الأرض بل استدارتها فيما بين الخافقين فقط، فيتحقق لو كانت أسطوانية الشكل مثلا كما لا يخفى.
ولنشرع الآن في شرح الدعاء.
Shafi 80
قال مولانا وإمامنا سيد العابدين، وقبلة أهل الحق واليقين، سلام الله عليه وعلى آبائه الطاهرين.
" أيها الخلق المطيع، الدائب السريع، المتردد في منازل التقدير، المتصرف في فلك التدبير ".
لفظة " أي ": وسيلة إلى نداء [10 / ب] المعرف باللام، كما جعلوا " ذو " وسيلة إلى الوصف بأسماء الأجناس، و " الذي " وسيلة إلى وصف المعارف بالجمل; لأن إلصاق حرف النداء بذي اللام يقتضي تلاصق أداتي التعريف، فإنهما كمثلين كما قالوا، وإنما جاز في لفظ الجلالة للتعويض ولزوم الكلمة المقدسة، كما تقرر في محله، وأعطيت حكم المنادى، والمقصود بالنداء وصفها، ومن ثم التزم رفعه، وأقحمت هاء التنبيه بينهما تأكيدا للتنبيه المستفاد من النداء، وتعويضا عما تستحقه " أي " من الإضافة.
" والخلق ": في الأصل مصدر بمعنى الإبداع والتقدير، ثم استعمل بمعنى المخلوق، كالرزق بمعنى المرزوق.
" والدائب " - بالدال المهملة وآخره باء موحدة -: اسم فاعل من دأب فلان في عمله أي جد وتعب.
وجاء في تفسير قوله تعالى: * (وسخر لكم الشمس والقمر دائبين) * (1)، أي مستمرين في عملهما على عادة مقررة جارية (2)، والمصدر
Shafi 81
" دأب " بإسكان الهمزة وقد تحرك، ودؤب بضمتين (1).
" والسرعة ": كيفية قائمة بالحركة، بها تقطع من المسافة ما هو أطول في زمان مساو أو أقصر، وما هو مساو في زمن أقصر.
ووصفه عليه السلام القمر بالسرعة ربما يعطي بحسب الظاهر أن يكون المراد سرعته باعتبار حركته الذاتية، وهي التي يدور بها على نفسه.
وتحرك جميع الكواكب بهذه الحركة مما قال به جم غفير من أساطين الحكماء، وهو يقتضي كون المحو المرئي في وجه القمر شيئا غير ثابت في جرمه، وإلا لتبدل وصفه، كما قاله سلطان المحققين (2) قدس الله روحه في شرح الإشارات (3)، وستسمع فيه كلاما إن شاء الله.
والأظهر أن ما وصفه به عليه السلام من السرعة إنما هو باعتبار حركته العرضية التي بتوسط فلكه، فإن تلك الحركة على تقدير وجودها غير محسوسة ولا معروفة، والحمل على المحسوس المتعارف أولى.
Shafi 82
وسرعة حركة القمر (1) بالنظر إلى سائر الكواكب; أما الثوابت فظاهر، لكون حركتها أبطأ الحركات حتى أن القدماء لم يدركوها; وأما السيارات فلأن زحل [11 / أ] يتم الدور في ثلاثين سنة، والمشتري في اثنتي عشرة سنة، والمريخ في سنة وعشرة أشهر ونصف، وكلا من الشمس والزهرة وعطارد في قريب سنة، وأما القمر فيتم الدور في قريب من ثمانية وعشرين يوما.
هذا ولا يبعد أن يكون وصفه عليه السلام القمر بالسرعة باعتبار حركته المحسوسة على أنها ذاتية له، بناء على تجويز كون بعض حركات السيارات في أفلاكها من قبيل حركة الحيتان في الماء، كما ذهب إليه جماعة، ويؤيده ظاهر قوله تعالى: * (والشمس والقمر كل في فلك يسبحون) * (2).
ودعوى امتناع الخرق على الأفلاك لم تقرن بالثبوت، وما لفقه الفلاسفة لإثباتها أوهن من بيت العنكبوت; لابتنائه على عدم قبول الأفلاك بأجزائها للحركة المستقيمة، ودون ثبوته خرط القتاد (3)، والتنزيل الإلهي الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ناطق بانشقاقها (4).
وما ثبت من معراج نبينا صلى الله عليه وآله بجسده المقدس إلى السماء السابعة صاعدا شاهد بانخراقها.
Shafi 83
تكملة:
أراد عليه السلام بمنازل التقدير منازل القمر الثمانية والعشرين، التي يقطعها في كل شهر بحركته الخاصة، فيرى كل ليلة نازلا بقرب واحد منها، قال الله تعالى: * (والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم) * (1).
وهي: الشرطان، والبطين ، والثريا، والدبران، والهقعة، والهنعة، والذراع، والنثرة [11 / ب]، والطرف والجبهة، والزبرة، والصرفة، والعواء، والسماك الأعزل، والغفر، والزبانا، والإكليل، والقلب، والشولة، والنعائم، والبلدة، وسعد الذابح، وسعد بلع، وسعد السعود، وسعد الأخبية، والفرغ المقدم، والفرغ المؤخر، والرشاء.
وهذه المنازل مشهورة فيما بين العرب، متداولة في محاوراتهم، مذكورة في أشعارهم، وبها يتعرفون الفصول (2)، فإنهم لما كانت سنوهم - لكونها باعتبار الأهلة - مختلفة الأوائل لوقوعها في وسط الصيف تارة وفي وسط الشتاء أخرى، احتاجوا إلى ضبط السنة الشمسية، ليشتغلوا في أشغال كل فصل منها بما يهمهم في ذلك الفصل، فوجدوا القمر يعود إلى وضعه الأول من الشمس في قريب من ثلاثين يوما، ويختفي في أواخر الشهر ليلتين أو ما يقاربهما، فأسقطوا يومين من زمان الشهر فبقي ثمانية وعشرون، وهو زمان ما بين ظهوره بالعشيات في أول الشهر وآخر رؤيته بالغدوات في أواخره، فقسموا دور الفلك على ذلك، فكان كل قسم اثنتي عشرة درجة وإحدى وخمسين دقيقة تقريبا، فسموا كل قسم منزلا، وجعلوا لها علامات من الكواكب القريبة من المنطقة، وأصاب كل برج من البروج الاثني عشر منزلان وثلثا.
ثم توصلوا إلى ضبط السنة الشمسية بكيفية قطع الشمس [12 / أ] لهذه
Shafi 84