فلا ضير علينا إذن، إذا عدنا إلى بعض تلك الحكايات والأساطير، مع الاعتماد على الحوادث الراهنة والوقائع المشاهدة الملموسة - تصريحا أو تلميحا - في أحاديثنا في هذه «الجريدة» الغراء، ومن أهدافها وأهداف كل صحيفة تدرك حقيقة رسالتها أن تصل بالحقائق إلى أعماق النفوس، وهذا هو هدف الأهداف في انبثاقات المدرسة الحديثة التي ندعو إليها، وفي تطورات مفهوم التربية فيها في تجليات روح المجتمع وثقافته.
المؤلف
الفصل الأول
يحكى أنه كان في قديم الزمان ملك عادل، كان ملكا عظيما مسيطرا في الأرض، ولا أذكر أن جدتي - رحمها الله - ذكرت لي اسمه، على كثرة ما رددت علي هذه الحكاية، ولا البلاد التي كان يحكمها، ولا الزمن الذي أظله بوقائعه. زمنه قديم، وسيطرته على جميع ممالك الأرض، وهو ملك عظيم تعنو له الرقاب، وتخضع لهيبته جميع الآفاق، هكذا كانت تصوره لي بعباراتها الفخمة ولهجتها القوية، وكانت عباراتها تزداد وضوحا بوضعها الذي تتخذه منسجما مع معاني القصة، ومتفقا مع حركة اليدين وبنظراتها المشعة، وكأني بها كانت ترسل تلك الأشعة لتنير لكلماتها طريقها إلى الفؤاد، فقد كان لكلماتها تأثيرها القوي في نفسي؛ ولذلك تراني أذكر الكثير منها، ومما كانت تقص علي من قصص، وأعترف بما كان لها في نمو ذاتي من أثر كبير.
ولعل في إهمال ذكر اسم الملك، وفي ترك تعيين بلاده وزمنه، مغزى بعيدا أراد واضع القصة أن يجعل منه صورة رمزية لكل ملك عادل، في أي قطر من الأقطار وفي أي زمن، ولو أن جدتي كانت تعرف كلمة الإمبراطور وتدرك معانيها لقالت - ولا ريب - إنه كان إمبراطورا عظيما؛ لأنه كان عادلا.
وعلى كل، فقد كان هذا الملك العظيم محبا لرعيته، يريد لكل فرد منهم الخير والطمأنينة والسعادة، وكان يؤلمه كل الألم أن يظلم أحد من الناس، فلم يكن يترك وسيلة لدفع الظلم، وما كان ليتساهل في الانتقام من الظالمين، اعتقد أن العدل أساس الملك، فاتجه لتحقيق العدالة بكل شعوره وبكل تفكيره، فالضعيف المظلوم هو القوي في نظره حتى يأخذ له حقه من ظالمه، والكبير صغير عنده إذا ما اعتدى على صغير أو احتقره. أحبته الرعية وتعلق به الناس، حتى كادوا يعبدونه من دون الله، كما عبدوا نمرود وفرعون، ولكن، وآه من ولكن.
ولكن أمرا ضاقت به نفوس الناس على الرغم من وجود مستلزمات الراحة والطمأنينة، بفضل نعمة العدالة التي يتصف بها الملك ! وقد ضاقت نفس الملك ذاته بهذا الأمر، على الرغم من كرم أخلاقه وحكمته، هي فكرة سيطرت على عقله حتى أصبحت عقيدة ملأت نفسه، فهو يدين بها لدرجة الوسوسة، فلا مناص من أن يتحمل هو، ومن أن يحمل الناس ما تستدعيه محاولة تحقيقها من تدابير تتجاوز أحيانا الحدود التي يطيقها البشر.
قد استقر في ضمير ذلك الملك أن العدل يأبى أن يكون شيمة لأبناء الحرام، فابن الحلال وحده هو الجدير بأن يتصف بالعدالة، وأن التبعة لا تقع عليه وحده في تحقيق العدالة، بل هناك الحكام والقضاة والموظفون، ولا قيمة لحبه للعدل، ولمحاولاته في تحقيقه إن لم يكن هؤلاء جميعهم عادلين، وما كانت فكرة مساهمة هؤلاء في تحمل تبعة تحقيق العدالة في المملكة لتخفف ما يجد من حرج في نفسه، بل زادت في قلقه؛ لأنه يدرك أن التبعة تعود كلها عليه ما دام هو الذي يعينهم ويوافق على اختيارهم، ولعله كان يردد في نفسه هذه المعاني التي قصدها الشاعر في قوله:
ومن يربط الكلب العقور ببابه
فكل بلاء الناس من رابط الكلب
Shafi da ba'a sani ba