هذه مسألة مهمة قد فصلتها في كتاب آخر فذكرت أن الفروق بين العرق العالي والعرق المتأخر لا تقوم على تفاوت في مستوى كلا ذينك العرقين العقلي المتوسط، بل تقوم على عطل العرق المتأخر من رجال قادرين على مجاوزة ذلك المستوى، وهذا أمر أساسي يمكن الاستدلال عليه في العوامل النفسية، وهذا أمر أساسي قد سعيت في استنتاجه من العوامل التشريحية أيضا، فقد أثبت، بما قمت به من المباحث في عدة جماجم من عروق مختلفة، أن العروق العالية تحتوي على الدوام ما لا تجده في العروق المتأخرة من الجماجم الكبيرة الواسعة.
ولنترك تلك المبادئ الفلسفية العامة، ولنعين ما يختلف به هندوسي الطبقات العليا عن أوربي الطبقات العليا، لنبصر أن ذلك الهندوسي يفترق عن ذلك الأوربي، على الخصوص، في عطله من روح الضبط والدقة وروح النقد وخلق المبادرة وأصالة الرأي وقوة البرهان وفي سعة خياله وفي عجزه عن رؤية الأمور كما هي عليه، وما إلى ذلك من النقائص التي لا يطفو عليها قدرته على الإدغام وما فيه من المنطق الذي لا يعدو به حد استنباط عدة نتائج من الأمر الواحد فلا يستطيع أن يقابل بين المتشابهات والمختلفات التي تستخرج من مقايسة شتى الأمور.
عطل الهندوسي من روح الضبط واضح، فالأمور تتموج عنده، كالضباب، من غير ضابط، فتبدو له كما لو كانت من خلال عدسات كالمرايا المشوهة التي يعرفها علماء الفيزياء، فترى نظمه الدينية وأقاصيصه التاريخية وقصائده القومية مبهمة متناقضة، ولهذا التناقض وعدم الضبط تجد أديان الهندوسي، ولا سيما البدهية، غامضة لدى علماء أوروبا الذين تعودوا دقة المنطق فلا يكون للكلمات عندهم سوى معان صريحة معينة، ولذلك يلوح الإلحاد والشرك للأوربي، مثلا، أمرين تفصل أحدهما عن الآخر هوة عميقة مع أنهما لا يبدوان للهندوسي إلا أمرين يمكن التوفيق بينهما فتقرأ في كتبه فرضهما عليه.
وأمور كفقدان الضبط وتموج الفكر، وإن كانت تحتمل في الإلهيات والأشعار والقصائد الدينية، تضحي ثقيلة غير سائغة عند تطبيقها عل الموضوعات التي لا بد لها من الضبط، وأمور كتلك حالت دون مجاوزة الهندوس أدنى المراحل في العلوم الصحيحة، أجل، قد هضم الهندوس ما علمهم إياه العرب فيما مضى وما يعلمهم إياه الأوربيون في الزمن الحاضر، ولكنهم لم ينتهوا إلى اكتشاف واحد في ميدان المعرفة.
ومن آية عدم الضبط ذلك أنك لا تجد بين ألوف الكتب التي وضعها الهندوس في ثلاثة آلاف سنة من سنوات الحضارة كتابا واحدا يشتمل على تواريخ صحيحة، فاضطر العلم الحديث إلى اتخاذ بعض الطرق المصنوعة كي يعين تعيينا تقريبيا الأزمنة التي ظهر فيها أشهر ملوكهم، ولا تسأل عن أنبائهم التاريخية، ففيها يتجلى لك استعداد الهندوس، عن حسن نية، لرؤية الأمور على غير ما هي عليه ورواية ما يشاهدونه محرفا مبدلا.
وإذا أردنا إجمال ما ورد في هذا الفصل عن الأخلاق المشتركة بين أكثرية الهندوس قلنا إن عوامهم ليسوا دون عوام الأوربيين، وإنه ليس عندهم ما عند الأوربيين من أصحاب النفوس العالية، وإن معظمهم عاطل من النشاط والثبات والإرادة، وإنهم مقسومون إلى عدة طوائف مؤلفة من ألوف الزمر التي ترى لكل واحدة منها جنسية خاصة ذات مصالح تختلف عن مصالح الأخرى، وإن أحوالا كهذه تفسر الدور الذي مثلته الهند على مسرح العالم والذي ستمثله، فالهند، إذ كانت أمة منذ الأزل كتب عليها أن تخضع لسادة من الأجانب على الدوام.
تم البحث في البيئات والعروق التي هي عوامل حضارة إحدى الأمم الأساسية، وقد تجد عوامل أخرى في تطور هذه الحضارة، ولكنها تستند إلى البيئات والعروق على الدوام، ونحن، إذ فرغنا من بحثنا التمهيدي، ندرس الحضارات التي أينعت في الهند والتطورات التي اعتورتها في غضون الأجيال.
هوامش
الباب الثالث
تاريخ الهند
Shafi da ba'a sani ba