نظم العرب السياسية والاجتماعية
(1) مصدر نظم العرب
تختلف النظم السياسية والاجتماعية، لأكثر الأمم التي يعنى بها التاريخ، اختلافا عظيما بين أمة وأخرى، ويدل إنعام النظر على أن قيمة تلك النظم أمر نسبي، فما صلح منها لأمة لا يصلح لأمة أخرى في الغالب.
وتحتاج تلك الحقيقة إلى برهان، ولا تسلم بها النفس حالا، ويظهر العكس من الحقائق أول وهلة، أي أنه يرى وجوب اتخاذ النظم التي عزيت إليها عظمة إحدى الأمم مثالا للاقتداء، وأن من الحكمة انتحالها وحمل الناس عليها طوعا أو كرها، وهذا ما اعتقده أقطاب السياسة والمؤرخون زمنا طويلا، ولا يزال أكثرهم يراه.
واليوم فقط بدأنا نعلم خطر ذلك الرأي، فقد أثبت البحث العميق في حياة الأمم، أن نظم الأمم عنوان مشاعرها واحتياجاتها الموروثة التي هي وليدة ماض طويل، وأنها لا تتبدل كما يشاء الإنسان، حقا روى المؤرخون وجود مشترعين، كموسى وليكورغ وسولون ونوما وغيرهم، فرضوا على أممهم شرائع ابتدعوها، ولكن الواقع غير ذلك، فلم يكن لمشترع مثل تلك القدرة التي لم تتفق لأقوى الفاتحين وأعنف الثورات إلا لوقت قصير، فإذا أكرهت أمة على قبول نظم تختلف عن نظمها كان ذلك من قبيل إرغام حيوان على تبديل وضعه الطبيعي حينا من الزمن، وإذا ما زال عامل القهر عاد الماضي إلى مجراه، وظهر أن الأمر لم يعد حد تغيير بعض الكلمات.
وهنالك حوادث تاريخية كثيرة تظهر في بدء الأمر مناقضة لما تقدم، فيجب درسها درسا حقيقيا؛ ليرى زوال هذا التناقض، خذ العرب مثلا ترهم قد فرضوا نظمهم على أمم مختلفة، ولكنك إذا ما بحثت في أمم آسية وإفريقية التي سارت على سنة العرب علمت أن النظم السابقة لأكثر هذه الأمم لا تختلف عن نظم العرب إلا قليلا، وأنه إذا كان بينها وبين نظم العرب اختلاف في الأمور الجوهرية، كنظم البربر مثلا، بدا لك ضعف أثر القرآن فيها، والعرب، وهم أعقل من كثير من أقطاب السياسة المعاصرين، كانوا يعلمون جيدا أن النظم الواحدة لا تلائم جميع الشعوب، فكان من سياستهم أن يتركوا الأمم المغلوبة حرة في المحافظة على قوانينها وعاداتها ومعتقداتها.
ولا تتبدل النظم، وهي عنوان احتياجات الأمة ومشاعرها التي نبتت فيها، إلا بتبدل تلك الاحتياجات والمشاعر، وقد أثبت التاريخ أنها لا تتحول إلا بتعاقب الوراثة، ومن ثم ببطء عظيم، وقد اقتضى تحول البرابرة الذين قضوا على العالم الروماني إلى ما صاروا إليه في دور النهضة مرور القرون الوسطى التي دامت ألف سنة.
وتسيطر سنن تطور ذوات الحياة على تطور النظم الاجتماعية، وقد اكتسب، بتعاقب الأزمنة، بعض ذوات الحياة، التي كانت تعيش في البحر في الأدوار الجيولوجية، من الأعضاء ما تمكن به من العيش في الهواء، وليس بعيدا الزمن الذي كان علماء الطبيعة يجهلون فيه تطور ذوات الحياة والحلقات التي تصل بين طرفيها، وليس بعيدا الزمن الذي كان علماء الطبيعة يعتقدون فيه أن قدرة علوية خلقت ذوات الحياة في أوقات مختلفة، فلما تقدم العلم أثبت أن هذه التحولات العظيمة لم تحدث فجأة، بل هي وليدة تطورات غير محسوسة اكتسبها كل جيل، وتراكمت بالوراثة في عدة قرون، وأسفرت عن تحولات عظيمة جدا.
ونعد العرق والبيئة وطرق المعايش والعوامل المختلفة، التي نرى الضرورة أولها وعزيمة الرجال أضعفها، أسبابا رئيسة في نشوء النظم، والزمن وحده هو القادر على توطيدها، وإذا رأينا أمة ذات نظم واحدة منذ زمن طويل أيقنا بأن هذه النظم خير ما يلائمها، وإذا كانت الحرية أمرا طيبا لدى بعض الشعوب كانت صرامة ولي الأمر المطلق أفضل للشعوب الأخرى، ولذا فإن من قصر النظر أن نقف عند حد ثقافتنا الاجتماعية التقليدية الخطرة، وأن نرى من الممكن تطبيق نظم لاءمت أمة بتعاقب الأزمان على أمة أخرى، وهذا لا يختلف كثيرا عن محاولة حمل السمك على التنفس في الهواء بحجة أن جميع الحيوانات العليا تتنفس في الهواء، فالسمك يموت حيث تحيا ذوات الثدي.
وما تنشأ به نظم الأمم، وما تتحول به، من البطء العظيم يجعلنا لا نبصر التحولات، على العموم، إلا إذا جهر بها مشترع عظيم، فنعزو إلى هذا المشترع وضع القوانين مع أنها وليدة ماض طويل، وليس شأن المشترعين الحقيقي سوى إثباتهم، بما لهم من سلطان، عادات مستقرة بالأذهان بعض الاستقرار، وإلغائهم العادات غير الصالحة أو الضارة التي لولاهم لدام أمرها مدة أخرى، أجل، إن تأثير المشترعين مهم، ولكن هذا التأثير لا يكون إلا إذا كانت التحولات التي هي وليدة استنباطهم ضئيلة إلى الغاية، وهنالك يمكنهم أن يرددوا قول سولون: «إنني لم أمنح أهل أثينة أفضل ما يتصور الإنسان من القوانين، بل منحتهم أفضل القوانين التي يطيقونها»، فسولون لم يختر القوانين التي جاء بها في الحقيقة من غير العادات السابقة التي رسخت في أذهان القوم ومعتقداتهم.
Shafi da ba'a sani ba