وإنما عزا لوبون سقوط الدولة العربية وانحطاط العرب إلى صفات العرب الحربية المتأصلة التي كانت نافعة في دور فتوحهم، فالعرب بعد أن تمت فتوحهم أخذ ميلهم إلى الانقسام يبدو، وصارت دولتهم تتجزأ، وقوضوا كيانهم بسلاحهم أكثر مما قوض بسلاح الأمم الأخرى، وعزا لوبون انحطاط العرب، أيضا، إلى ما حدث من قبض أناس من ذوي العقول المتوسطة على زمام دولتهم الواسعة بعد أن كان يدير شؤونها رجال من العباقرة، وإلى ما ألفه العرب من الترف، وما أصابهم من فتور في الحماسة لمثلهم الأعلى، وإلى تنافس مختلف الشعوب التي خضعت لسلطانهم، وإلى فساد الدم العربي الذي نشأ عن توالد العرب وتلك الشعوب.
وعلى ما في هذه الأسباب من الصحة لا نعتقد أن لوبون أصاب حين ظن أن من أصول الإسلام النظام الأساسي القائل بجمع جميع السلطات في يد سيد مطلق، وحين عزا انحطاط العرب إلى هذا النظام الذي حمل به الناس كما ادعى، على التمسك بأحكام الماضي الإسلامية غير المطابقة لاحتياجاتهم المتحولة، فبعد أن أوضح لوبون أن نظام العرب ديموقراطي، وأن مبدأ المساواة التامة ساد الجميع بفضله، وأن الفقهاء ساروا على مبدأ «لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأمكنة والأزمان»، وأن المسلمين في عصر خلفاء بغداد وقرطبة الزاهر كانوا يعلمون، بما يأتون من ضروب الاجتهاد، كيف يوفقون بين هذه الأحكام واحتياجات الأمم التي انتحلتها، كان من الخطأ ذهابه إلى أن نظام الحكم المطلق هو من أصول الإسلام، جاء في القرآن:
ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون ...
وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله ...
وأمرهم شورى بينهم ... إلخ، وقال الرسول الأعظم: «الدين النصيحة لله ولكتابه، ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم» ... و«إن الله يرضى لكم أن تعبدوه وحده، ولا تشركوا به شيئا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم» ... و«ما تشاور قوم إلا هدوا لأرشد أمرهم» ... و«إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده» ... إلخ.
5
وبعد أن أوضح العلامة لوبون أن الإسلام ألف بين قلوب العرب، وأنهم فتحوا العالم بفضله متخذين ما أمرهم به من العدل والإحسان والتسامح والرأفة بالأمم المغلوبة دستورا لهم، قال: «كان من سياسة العرب الثابتة، إذا ما أرادوا الاستقرار بقطر؛ أن يكونوا على وئام مع الأهلين المغلوبين، وأن يحترموا دينهم وشرائعهم، وأن يكتفوا بأخذ جزية طفيفة منهم»، وإلا كان همهم تمويل الجنود وأخذ الغنائم.
وأثبت لوبون، بما لا يترك للشك مجالا، أن عبد الرحمن الغافقي لم يهدف من غزوه لفرنسة إلا الاستقرار بها واتخاذها قاعدة للاستيلاء على أوربة، وأن النصر الذي أحرزه شارل مارتل في پواتيه لم يكن مهما كما زعم المؤرخون، بدليل عجز شارل مارتل عن استرداد أية مدينة استولى عليها العرب عسكريا في فرنسة، وبدليل بقاء العرب، بعد معركة پواتيه مدة قرنين في جنوب فرنسة، وبدليل محالفة بعض أمراء فرنسة العرب على شارل مارتل الذي أخذ ينهب بلادهم، ثم قال لوبون: «إن النتيجة المهمة الوحيدة التي أسفر عنها انتصار شارل مارتل في پواتيه هي أنه جعل العرب أقل جرأة على غزو شمال فرنسة، ونتيجة مثل هذه لم تكف لتكبير أهمية انتصار هذا القائد الفرنجي.»
ثم ألمع لوبون، بعد أن ذكر غاية العرب من غزو فرنسة، إلى تخوف مؤرخي الغرب على مصير أوربة فيما لو كان النصر قد تم للعرب في معركة پواتيه وكانت غايتهم الاستيلاء، وقال: «لنفرض، جدلا، أن النصارى عجزوا عن دحر العرب، وأن العرب وجدوا جو شمال فرنسة غير بارد ولا ماطر كجو إسپانية فطابت لهم الإقامة الدائمة به، فماذا كان يصيب أوربة؟ كان يصيب أوربة النصرانية المتبربرة مثل ما أصاب إسپانية من الحضارة الزاهرة تحت راية النبي العربي، وكان لا يحدث في أوربة، التي تكون قد هذبت، ما حدث فيها من الكبائر، كالحروب الدينية وملحمة سان بارتلمي ومظالم محاكم التفتيش، وكل ما لم يعرفه المسلمون من الوقائع التي ضرجت أوربة بالدماء عدة قرون.»
وقد خصص العلامة لوبون فصلا للحروب الصليبية أشار فيه، غير مرة، إلى الفرق بين الفتح العربي والغارات الصليبية من حيث التسامح وحسن معاملة المغلوبين والسياسة الرشيدة، فقال: «كانت أوربة، ولا سيما فرنسة، في القرن الحادي عشر الذي جردت فيه الحملة الصليبية الأولى في أشد أدوار التاريخ ظلاما ... ولم يكن الصراع العظيم الذي كان يتمخض عنه العالم غير نزاع عظيم بين أقوام من الهمج، وحضارة تعد من أرقى الحضارات التي عرفها التاريخ.»
Shafi da ba'a sani ba