«إن القوة لم تكن عاملا في انتشار القرآن ما ترك العرب المغلوبين أحرارا في أديانهم، فإذا حدث أن اعتنق بعض الأقوام النصرانية الإسلام، واتخذوا العربية لغة لهم، فذلك لما رأوه من عدل العرب الغالبين مما لم يروا مثله من سادتهم السابقين، ولما كان عليه الإسلام من السهولة التي لم يعرفوها من قبل.» «ولم ينتشر القرآن، إذن بالسيف، بل انتشر بالدعوة وحدها، وبالدعوة وحدها اعتنقته الشعوب التي قهرت العرب مؤخرا، كالترك والمغول.» «أدرك الخلفاء السابقون، الذين كان عندهم من العبقرية السياسية ما ندر وجوده في دعاة الديانات الجديدة، أن النظم والأديان ليست مما يفرض قسرا؛ فعاملوا أهل كل قطر استولوا عليه بلطف عظيم، تاركين لهم قوانينهم ونظمهم ومعتقداتهم، غير فارضين عليهم سوى جزية زهيدة في الغالب، إذا ما قيست بما كانوا يدفعون سابقا في مقابل حفظ الأمن بينهم، فالحق أن الأمم لم تعرف فاتحين متسامحين مثل العرب، ولا دينا سمحا مثل دينهم.»
غوستاف لوبون
مقدمة المترجم
بسم الله الرحمن الرحيم
1
كان من نتائج اصطراع الشرق والغرب منذ قرون مضت، وإلقاء العرب الرعب في قلوب الأوربيين - أن صار الأوربيون يشعرون بمذلة الخضوع للحضارة العربية التي لم يتحرروا من سلطانها إلا منذ زمن قريب، فأخذوا ينكرون فضل العرب على أوربة وتمدينهم لها، وأصبح هذا الإنكار من تقاليد مؤرخي أوربة وكتابها الذين لم يقروا لغير اليونان والرومان بتمدينها، وقد ساعدهم على هذا ما عليه العرب والمسلمون من التأخر في الزمن الأخير، فلم يشاءوا أن يروا للعرب رقيا تاريخيا أعظم مما هم عليه الآن غير ناظرين إلى أن نجم حضارة العرب أفل منذ أجيال، وأنه لا يصح اتخاذ الحال دليلا على الماضي.
ولم تخل أوربة، مع ذلك، من مؤرخين أبصروا ما للعرب من فضل في تمدين أوربة، فألفوا كتبا اعترفوا فيها للعرب بما ليس فيه الكفاية.
وقد راع هذا الجحود العلامة الفرنسي الكبير غوستاف لوبون، وهو الذي هدته رحلاته في العالم الإسلامي ومباحثه الاجتماعية إلى أن العرب هم الذين مدنوا أوربة، فرأى أن يبعث عصر العرب الذهبي من مرقده، وأن يبديه للعالم في صورته الحقيقية ما استطاع، فأخرج في سنة 1884 كتاب «حضارة العرب» الذي نعرض ترجمته على الناطقين بالضاد.
سلك العلامة لوبون في تأليف كتاب: «حضارة العرب» طريقا لم يسبقه إليها أحد، فجاء جامعا لعناصر هذه الحضارة وتأثيرها في العالم، شاملا لعجائبها مفصلا لعواملها، باحثا في قيام دولة العرب، وفي أسباب عظمتهم وانحطاطهم، مبتعدا عن أوهام الأوربيين التقليدية في العرب والإسلام.
وقد استعان لوبون بطريقة التحليل العلمي على الخصوص، فأوضح في هذا الكتاب الصلة بين الحاضر والماضي، ووصف فيه عرق العرب وبيئاتهم، ودرس فيه أخلاقهم وعاداتهم وطبائعهم ونظمهم ومعتقداتهم وعلومهم وآدابهم وفنونهم وصناعتهم وتأثيرهم في المشرق والمغرب، وأسباب عظمتهم وانحطاطهم.
Shafi da ba'a sani ba