Al'dun Arab a Andalus
حضارة العرب في الأندلس: رسائل تاريخية في قالب خيالي بديع
Nau'ikan
22 - ذلك إلى معدات أخرى لا أظنهم قد سبقوا إليها أرانيها الأمير ابن رماحس في الشونة التي كنا نشاهد منها حركات الأسطول، مثل التوابيت المعلقة فوق البروج، وهي صناديق كبيرة مفتوحة من أعلاها يصعد إليها الرجال قبل استقبال العدو، فيقيمون فيها للاستكشاف ومعهم حجارة صغيرة في مخلاة معلقة بجانب الصندوق، فيرمون العدو بها وهم مختبئون في هذه الصناديق، ومعهم عدا الحجارة قوارير النفط وجرار النورة، وهي مسحوق ناعم مؤلف من الكلس والزرنيخ يرمون به الأعداء في مراكبهم، فتعمي أبصارهم بغبارها، وقد تلتهب فيهم التهابا.
وقد رأيتهم وهم يرمونهم أيضا بقدور الحيات والعقارب، وبقدور الصابون اللين كي يزلقوا أقدامهم. ومن حيلهم التي يتخذونها وقاء لهم من أعدائهم أنهم يحيطون المراكب بالجلود، أو اللبود المبلولة بالخل والماء، أو الشب والنطرون؛ كي لا يفعل النفط فيها فعله، ومن حيلهم أنهم يجعلون في مقدم المركب هناة كالفأس يسمونها اللجام؛ وهي حديدة طويلة محددة الرأس ، وأسفلها مجوف كسنان الرمح، تدخل من أسفلها في خشبة كالقناة بارزة في مقدم المركب يقال لها: «الأسطام»، فيصير اللجام كأنه سنان رمح بارز في مقدم المركب، فيطعنون مركب العدو به، فلا يلبث حتى ينخرق فينصب فيه الماء فيغرق، ومن تلك الحيل أنهم إذا جن الليل لا يشعلون في مراكبهم نارا، ولا يتركون فيها ديكا، وقد يسدلون على المراكب قلوعا زرقاء، فلا يرى العدو مراكبهم التي يشبه لونها لون الماء أو السماء. فسبحان الملهم من يشاء ما يشاء، ويخلق ما لا تعلمون، لا إله غيره.
أما رئاسة الأساطيل فقد جعلوا على كل أسطول قائدا ورئيسا؛ فالقائد يدبر أمر سلاحه وحربه ومقاتلته، والرئيس يدبر أمر جريه بالريح أو المجازيف، ومعرفة مسالك البحر وطرقه بواسطة الرهنامج
23
وبيت الإبرة، التي هي من مبتكراتهم ولم يسبقهم إليها سابق فيما علمنا. أما النظر في الأساطيل كلها، فيرجع إلى أمير واحد من أعلى طبقات المملكة يلقبونه أمير البحر أو أمير الماء.
وبعد أن أقمنا في المرية ثلاثة أيام بلياليها، تحملنا منها في ركب فخم نبيل موف على الغاية في الأبهة والروعة والجلال، قاصدين إلى قرطبة حضرة هذه البلاد، وكان في طليعة الركب أمير البحر عبد الرحمن بن رماحس؛ إذ أمره سيدي الحكم ابن أمير المؤمنين عبد الرحمن الناصر وولي عهده - كما أسلفنا - أن يتلقانا في وفد من وجوه الأندلسيين، ويجيء معنا إلى قرطبة مبالغة من الأمير - حفظه الله - في الاحتفاء بنا، وبأبي علي القالي البغدادي، وبأبي عبد الله الصقلي الفيلسوف الذي وصل إلى المرية قبل انفصالنا عنها، وكان في الركب من الأندلسيين الرمادي الشاعر، وأبو بكر بن القوطية، وأبو بكر الزبيدي، وكثير من أدباء الأندلس وأعيانها.
وقد بهرنا وسحر أعيننا وملك علينا ألبابنا ما رأيناه في طريقنا من استبحار العمران في هذا القطر الأندلسي؛ فقد كنا نمر في اليوم الواحد بثلاث مدن وأربع، وفي حيثما سرنا نرى الحوانيت في الأودية ورءوس الجبال؛ لبيع الخبز والفواكه والجبن واللحم والحوت وما إلى ذلك من ضروب الأطعمة، وكنا نتعثر تعثرا بالجداول والأنهار تحفها البساتين وصنوف الزرع والنجوم والأشجار؛ حتى لظننا أنه ليس في هذه البلاد صحراء مقفرة أو أرض غامرة.
يا أهل أندلس لله دركم
ماء وظل وأنهار وأشجار
ما جنة الخلد إلا في دياركم
Shafi da ba'a sani ba