إن الصحابة والتابعين لقرب عهدهم بصاحب الشريعة الإسلامية، ولقلة الاختلاف والواقعات، ولتمكنهم من مراجعة الثقات؛ كانوا لكل ذلك مستغنين عن تدوين علم الشرائع والأحكام، حتى إن بعضهم كره كتابة العلم، فقد روي عن ابن عباس أنه نهى عن الكتابة، وقال: «إنما ضل من كان قبلكم بالكتابة.» وجاء رجل إلى عبد الله بن عباس - رضي الله عنه - فقال: «إني كتبت كتابا أريد أن أعرضه عليك.» فلما عرضه عليه، أخذه منه ومحاه بالماء، فقيل له: «لماذا فعلت ذلك؟» قال: «لأنهم إذا كتبوا، اعتمدوا على الكتابة وتركوا الحفظ، فيعرض للكتاب عارض فيفوت علمهم.»
ولذلك نبغ الحفاظ في هذه الأمة، وأكثرهم في الحديث والشعر واللغة، حتى كان الرجل منهم يتصدر في مجلس العلم فيملي من محفوظه ما شاء الله، لا يرجع إلى كتاب، وتبقى أماليه مرجعا للباحثين والطلاب، وهذه كتب الأمالي أكثر من أن تحصر، وأشهر من أن تذكر بالشرق وبالأندلس، وقد وصف العلماء الأمالي فقالوا: «هو جمع إملاء، وهو أن يقعد عالم وحوله تلامذته بالمحابر والقراطيس، فيتكلم العالم بما فتح الله عليه من العلم، ويكتبه التلامذة؛ فيصير كتابا، ويسمونه الإملاء والأمالي.»
وقد روى صاحب كشف الظنون أسماء بعض كتب في الأمالي، نروي هنا بعضها، فمنها: «الأمالي الخمسمائة» للإمام أبي سعيد عبد الكريم بن محمد السمعاني المروزي الشافعي المتوفى سنة 552ه، و«أمالي ابن الحاجب» المتوفى سنة 672، فيه تفسير بعض الآيات، وفوائد شتى من النحو على مواضع من المفصل، ومواضع من الكافية في غاية من التحقيق، و«أمالي ابن حجر» العسقلاني المتوفى سنة 852، و«أمالي ابن دريد» المتوفى سنة 321، وهي في العربية، و«أمالي ابن الشجري» المتوفى سنة 572، وهي ثمانية مجلدات في خمسة فنون من الأدب، قال ابن خلكان: «أملاه في أربعة وثمانين مجلسا.» و«أمالي ابن عساكر» في الحديث، وهو صاحب التاريخ الكبير، المتوفى سنة 571، و«أمالي أبي بكر» الأنباري، و«أمالي أبي العلاء» المعري المتوفى سنة 449، وهو مائة كراسة، ولم يتمه، و«أمالي الإمام» أبي يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري الحنفي، المتوفى سنة 183، وهي في الفقه، يقال إنها أكثر من ثلثمائة مجلد، و«أمالي جار الله» الزمخشري، و«أمالي الزجاج في النحو»، وهو أبو إسحاق إبراهيم بن محمد النحوي، المتوفى سنة 312، وهي ثلاثة: الكبرى، والوسطى، والصغرى، و«أمالي القالي في اللغة» وهو الشيخ أبو علي إسماعيل بن القاسم اللغوي المتوفى سنة 356.
ولما كانت عناية القوم منصرفة إلى الحديث، كثر الحفاظ في هذا الفن، وأتوا بالغرائب وبالبدائع، فقد كان معظمهم لا يرجع إلى كتاب ولا يقتني كتابا كما قلنا ذلك قبلا، وإنما يتفجر علمهم من المحفوظ في صدورهم، ولم يكن الرجل يستحق لقب الحافظ إلا إذا بلغ محفوظه من ثلاثة آلاف فما فوق، ونشير من باب الدلالة إلى بعض أفراد من الحفاظ مثل: ابن غياث الكرخي الذي حفظ ثلاثة آلاف حديث، وابن درهم الذي حفظ أربعة آلاف حديث، وابن عيينة الذي حفظ سبعة آلاف حديث، وأما الذين اشتهروا بحفظ عشرة آلاف فهم كثيرون مثل: شعبة، وحماد الربعي، والمروزي، وغيرهم، وهنالك من ضاعف هذا العدد مثل: أبي سعيد عبد الرحمن بن مهدي، وابن عياش، والإسفرايني، وأما سفيان الثوري فكان يحفظ ثلاثين ألف حديث، وأبو خالد بن يزيد بن هارون كان يقول: «أحفظ أربعة وعشرين ألف حديث بالإسناد ولا فخر، وأحفظ للشاميين عشرين ألفا لا أسأل عنها.» وأما الختلي البغدادي، والعبدي البصري؛ فكانا يحفظان خمسين ألفا، وابن أبي عاصم نهب الزنج كتبه في فتنة بالبصرة، فأعاد من حفظه خمسين ألفا، وأما البخاري فكان يحفظ مائة ألف حديث صحيح، ومائتي ألف حديث غير صحيح، ونهاية ما وصل إليه البشر ما بلغه ابن حنبل، قالوا: «إنه حفظ ألف ألف حديث.»
كذلك كان شأنهم في الأدب واللغة، فقد أملى ابن الأنباري من غريب الحديث من محفوظه ما ملأ خمسة وأربعين ألف ورقة، وكان يحفظ ثلثمائة ألف بيت شاهدا للقرآن، وابن أبي هاشم البغدادي أملى من حفظه ثلاثين ألف ورقة في اللغة، خلاف الكتب الكثيرة التي صنفها من غير أن يرجع إلى كتاب.
وقد اشتهر الحفاظ في الأندلس وفي المغرب، وأتوا بالعجائب والغرائب، فمنهم: ابن حزم الظاهري المشهور، وأبو العباس أحمد المقري، صاحب كتاب نفح الطيب، ومنهم عبد الواحد المراكشي، أملى بمصر التي كان فيها سنة 619 كتاب المعجب في تلخيص أخبار المغرب، وهو من نفائس الكتب التي أرى أنها تستحق أن تكتب بماء الذهب، ويتوفر المتأدبون على قراءتها وتكريرها مرارا عديدة، وقد أشار فيه إلى أستاذه أبي جعفر أحمد بن محمد بن يحيى الحميري، الذي كان يقرأ عليه بقرطبة كتاب الحماسة ولزمه سنين، فقال: «ما رأيت أروى لشعر قديم ولا حديث، ولا أذكر بحكاية تتعلق بأدب أو مثل سائر أو بيت نادر أو سجعة مستحسنة منه رضي الله عنه وجازاه عنا خيرا، أدرك جلة من مشايخ الأندلس، فأخذ عنهم علم الحديث والقرآن والآداب، وأعانه على ذلك طول عمره، وصدق محبته، وإفراط شغفه بالعلم، قال لي ولده عصام: «وقد رأيت عنده نسخة من شعر أبي الطيب قرئت علي أو أكثرها فألفيتها شديدة الصحة.» فقلت له: «لقد كتبتها من أصل صحيح، وتحرزت في نقلها.» فقال لي: «ما يمكن أن يكون في الدنيا أصل أصح من الأصل الذي كتبت منه.» فقلت له: «أين وجدته؟» قال: «هو موجود الآن بين أيدينا وعندنا.» وكنا في المسجد في زاوية، فقلت له: «أين هو؟» فقال: «عن يمينك.» فعلمت أنه يريد الشيخ، فقلت: «ما على يميني إلا الأستاذ.» فقال لي: «هو أصلي، وبإملائه كتبت، كان يملي علي من حفظه.» فجعلت أتعجب، فسمع الأستاذ حديثنا؛ فالتفت إلينا وقال: «فيم أنتما؟» فأخبره ولده الخبر، فلما رأى تعجبي قال: «بعيدا أن تفلحوا، يعجب أحدكم من حفظ ديوان المتنبي، والله لقد أدركت أقواما لا يعدون من حفظ كتاب سيبويه حافظا، ولا يرونه مجتهدا.» وتوفي أبو جعفر هذا سنة 610ه.»
وقد انتشرت عادة الحفظ في جميع طبقات الأمة الإسلامية، فقد ذكر ابن خلكان أن الملك المعظم عيسى سلطان الشام ابن الملك العادل الأيوبي الفقيه الحنفي، الأديب المتوفى سنة 604، أمر الفقهاء أن يجردوا له مذهب أبي حنيفة دون صاحبيه، فجردوه له في عشرة مجلدات، وسموه التذكرة، وكان لا يفارقه سفرا ولا حضرا، ويديم مطالعته، وذكر أنه كتب على كل جلد منه «حفظه عيسى» فقيل له يوما: «أنت مشغول بتدبير الملك، فكيف يتيسر لك حفظ هذا المقدار؟» فقال: «كيف الاعتبار بالألفاظ؟ وإنما الاعتبار بالمعاني، باسم الله سلوني عن جميع مسائلها.» وهذا يدل على اطلاع زائد وحفظ تام، هذه العبارة رواها صاحب كشف الظنون، ولم أجدها في النسخة المطبوعة من وفيات الأعيان ببولاق، وكان لهذا الملك الهمام عناية بالأدب وأهله، وقد شرط لكل من يحفظ المفصل للزمخشري مائة دينار وخلعة، فحفظه لهذا السبب جماعة، ورأى ابن خلكان بعضهم بدمشق، وقال: «لم أسمع بمثل هذه المنقبة لغيره.»
ومن مشهوري الحفاظ بالأندلس أبو حيان، ومحفوظاته ومروياته ومؤلفاته من أعجب الأعاجيب، وكان يفتخر بالبخل، ولا يقتني كتابا واحدا، بل يعيب على مشتري الكتب، ويقول: «الله يرزقك عقلا تعيش به، أنا أي كتاب أردته استعرته من خزائن الأوقاف، وإذا أردت من أحد أن يعيرني درهما ما أجد ذلك.»
وأما الشعراء والرواة الذين حفظوا أشعار العرب ودواوين المتقدمين فهم كثيرون أيضا، ومنهم: أبو نواس ، لم يقل الشعر حتى حفظ ثلاثين ديوانا - فيما أذكر - للشواعر من نساء العرب، ولا نذكر الأصمعي وأمثاله، فهم أشهر من نار على علم، وإنما نقول هذه المزية اشترك فيها أهل الأندلس أيضا، وحسبنا التنويه بذكر ابن عبد ربه، كان أيسر محفوظاته كتاب الأغاني، لا يخطئ منه واوا ولا ألفا، وناهيك بكتاب الأغاني، وهذه المسألة العجيبة مشروحة في كتاب عبد الواحد المراكشي، وتستحق أن يرجع إليها أهل الأدب والطالبون للوقوف على أحوال الأكابر في عصر الإسلام الزاهر.
ومن غرائب الحفاظ ما يروى من أن الإمام الجليل أبا عبد الله محمد بن إدريس الشافعي كان إذا نظر في كتاب وضع يده فوق السطور التي تلي السطر الذي يقرؤه؛ خوفا من أن تمر عليها عينه فتعلق بذهنه، فإنه ما كان ينظر شيئا إلا حفظه، وهو القائل:
Shafi da ba'a sani ba