وهذا الموضوع على نفاسته لم يخض فيه إلا نفر قليل نظرا لما يلاقيه المشتغل به من المصاعب، وما يتجشمه من المتاعب؛ إذ كان لا يتسنى لأحد أن يلم بأطرافه إلا إذا جمع شتات الكتب بين مطبوعة ومخطوطة، وتصفحها تصفحا تاما ليستخلص منها زبدة الموضوع ولباب الكلام.
كل من عرف ذلك وعانى هذه المشاق يدرك لأول وهلة قيمة الكتاب ويقدره قدره، ويأسف معنا أشد الأسف على أنه لم يجمع سائر المحاضرات، بل اقتصر على بعضها دون البعض لعذر طرأ على الأستاذ فأخره عن إتمام ذلك العمل الكبير.
ونحن لا نتعزى كغيرنا بقول من قال: «ما لا يدرك كله، لا يترك جله.» وإنما تعزيتنا أن يقوم من بيننا نفر فيأخذوا على عاتقهم أن يعاونوا الأستاذ على إخراج باقي المحاضرات للناس ليكون الكتاب تاما كاملا.
وها نحن أولاء نتطوع فيمن يتطوعون لأداء هذا الواجب، ولسنا نعدم نصراء للأدب يسدون النقص ويملئون هذا الفراغ، ولنا من حرص سعادة زكي بك على فائدة الأمة الإسلامية ما يكفل لهم النجاح ويسهل عليهم كل أمر عسير.
أصحاب مجلة الجامعة المصرية
محمود شاهين، محمد كامل فيضي، عبد الله أمين
المحاضرة الأولى: أحوال الأمة العربية بعد ظهور الإسلام
أيها السادة، أحييكم بتحية الإسلام فأقول: «السلام عليكم»، ثم أقفي على آثارها بأن أقول لكم إن محاضراتنا، التي نبدؤها اليوم، هي من أشق الأعمال وأمنعها إلا عن الجماعات الباحثين المدققين؛ فمقدرة عاجز مثلي تضمحل دون استيفاء هذه المحاضرات، ودون وقوفي موقف معلم يعلمكم ما لم تكونوا تعلمون، لا سيما أن فيكم من هو أولى مني بهذا الموقف الخطير الجليل، فجل ما يصيبكم مما أحمله إليكم من العلم بهذه المحاضرات، هو ضوء مصباح يضيء لكم مواضع أقدامكم؛ فتبصرون الطريق التي تسلكونها للوصول إلى الغاية المطلوبة من اجتماعنا هذا، وما المعلمون إلا مرشدون وهادون، فعليكم بالبحث والتنقيب والدرس، ومسألة أهل الذكر؛ فإن النبوغ في الفنون لا يكون إلا بهذا، فالمدارس مهما علا شأنها وسمت منزلتها، لا يمكنها أن تعلم الناس النبوغ في الفنون، وإنما منتهى ما تصل إليه الجامعات التي هي أرقى مدارس الهيئة الاجتماعية؛ إنما هو هداية الطلاب إلى طرق النبوغ وأساليبها، فلا تتواكلوا ولا تفتر عزائمكم؛ ليكون لنا منكم في المستقبل رجال يفضلوننا، ويفضلون من هم أفضل منا من حاضري مجلسنا هذا الذين أشرت إليهم بادئ الأمر.
ما زال العرب يعيشون منذ برأهم الله عاكفين حول الشعاب والجبال، قانعين في خمولهم وضلالهم بنعمة الحرية والاستقلال، حتى كان القرن السابع للميلاد، وحينئذ جاء دورهم الطبيعي، فظهروا في مظهرهم الحقيقي، وبهروا العالم بما كان كامنا في نفوسهم من المواهب وأسباب الاستعداد؛ فإن الحرية والاستقلال أكمنتا في نفوسهم العزيمة الصادقة وقوة الإرادة، وهاتان الخلتان هما نبعتا الفضائل ومصدرا النجاح والرقي في معترك الحياة، والأمم المغلوبة على أمرها لا تحيا فيها خلة من هاتين الخلتين الجليلتين.
بعث الله فيهم ومنهم «محمدا» - عليه الصلاة والسلام - بدين جديد: هو دين التوحيد، وبملة سمحة: هي الحنيفية البيضاء، فجعل لهم بذلك نظاما جميلا، ومقاما جليلا، بعد أن عاشوا همجا زمانا طويلا، وعاثوا في الأرض مفسدين.
Shafi da ba'a sani ba