وقيل لأشعب: لو أنك حفظت الحديث حفظك لهذه النوادر لكان أولى بك، قال: قد فعلت، قالوا له: فما حفظت من الحديث؟ قال: حدثني نافع عن ابن عمر عن النبي ﷺ أنه قال: من كانت فيه خصلتان، كتب عند الله خالصًا مخلصًا، قالوا: إن هذا حديث حسن، فما هاتان الخصلتان؟ قال: نسي نافع واحدة ونسيت أنا الأخرى.
ورأى بعضهم قاصًا، يقص غداة يوم، ثم رآه في العشي في بيت خمار والقدح في يده، فقال: ما هذا؟ فقال: أنا بالغداة قاص، وبالعش ماص.
وقال بعضهم: أتيت الخليل، فوجدته على طنفسة صغيرة، فوسع لي، وكرهت أن أضيق عليه، فانقبضت، فأخذ بعضدي، وقدمني إلى نفسه، وقال: ما يضيق سم الخياط بمتحابين، ولا تتسع الأرض لمتباغضين، ولقد صدق، أخذ المعنى أبو محمد غانم بن الوليد المالقي فقال:
صير فؤادك للمحبوب منزلة ... سم الخياط مجال للمحبين
ولا تسامح بغيضًا في معاشرة ... فقلما تسع الدنيا بغيضين
وقال الأصمعي: مر بي أعرابي سائلًا، فقلت: كيف حالك؟ قال: أسأل الناس إلحافًا، فيعطوني كرهًا فلا يؤجرون، ولا يبارك لي فيما آخذ منهم.
وخطب ثقيل في تزويج، فقام واحد من القوم وقال: إذا فرغ الثقيل - بارك الله لكم - فإن لي شغلًا أريد المبادرة إليه.
وكان صائد يصيد العصافير في يوم بارد، فكان يذبحها، ودموعه تسيل من البرد، فقال عصفور لصاحبه: لا عليك من الرجل، أما تراه يبكي؟ فقال له الآخر: لا تنظر إلى دموعه، وانظر إلى ما تصنع يده.
وصلى رجل مراء، فقيل له: ما أحسن صلاتك، فقال: ومع ذلك فإني صائم.
وقال طاهر بن الحسين لأبي عبد الله المروزي: كم لك منذ نزلت العراق؟ قال: منذ عشرين سنة، وأنا أصوم الدهر منذ ثلاثين، فقال: يا أبا عبد الله، سألناك عن مسألة واحدة، فأجبتنا في مسألتين.
وقال مقاتل بن سليمان يومًا، وقد دخلته أبهة العلم، سلوني عما تحت العرش إلى أسفل الثري، فقال له رجل: ما نسألك عن شيء من ذلك، وإنما نسألك عما معك في الأرض، أخبرني عن كلب أهل الكهف، ما كان لونه؟ فأفحمه.
وصعد ابن قتيبة يومًا للمنبر وقال: يسألني من شاء عما شاء، فقام إليه أحد المغفلين، فقال له: ما الفتيل والقطمير؟ فلم يحر جوابًا، ونزل خجلًا، وانصرف إلى منزله كسلًا، فلما نظر اللفظتين وجد نفسه أذكر الناس لهما.
وقال قتادة: ما سمعت شيئًا قط إلا حفظته، ولا حفظت شيئًا قط فنسيته، ثم قال: يا غلام، هات نعلي، فقال: هما في رجليك، ففضحه الله.
وقال: حفظت ما لم يحفظه أحد، ونسيت ما لم ينسه أحد، حفظت القرآن في سبعة أشهر، وقبضت على لحيتي، وأنا أريد أن أقطع ما تحت يدي، فقطعت ما فوقها.
وسمع كثير عدي بن الرقاع ينشد الوليد بن عبد الملك قوله:
وعلمت، حتى ما أسائل عالما ... عن علم واحدة لكي أزدادها
في قصيدة طويلة، فقال كثير: كذبت، ورب البيت الحرام، فليمتحنك أمير المؤمنين في صغار الأمور دون كبارها، حتى يتبين جهلك، وما كنت قط أحمق منك اليوم، حتى تظن هذا من نفسك.
وقال ابن موسى المنجم: ما أحد تمنيت أن أراه، فإذا رأيته أمرت بصفعه إلا عديًا، فقيل له: ولم ذلك؟ قال: لقوله هذا البيت، كنت أعرض عليه أصناف العلوم، فكلما مر عليه شيء لا يحسنه، أمرت بصفعه.
وكان الواثق يقول بخلق القرآن، ويعاقب من خالفه، فأدخل عليه رجل فقال له: ما تقول في القرآن؟ فتصامم الرجل، فأعاد السؤال فقال: من تعني يا أمير المؤمنين؟ قال: إياك عني، قال: مخلوق، وتخلص منه.
وقيل لآخر: ما تقول في القرآن؟ فأخرج يده، وجعل يعد أصابعه: التوراة والإنجيل والزبور والقرآن، هؤلاء الأربعة مخلوقة، يعني أصابعه، وتخلص منه.
ومما يستظرف من ذلك، أن رجلًا تعذر عليه الوصول إلى المأمون في ظلامة، فصاح على بابه: أنا أحمد النبي المبعوث، فأدخل عليه، وأعلم أنه تنبأ، فقال له: ما تقول فيما حكى عنك؟ قال: وما هي؟ قال: ذكروا أنك تقول: أنا نبي، فقال: معاذ الله، إنما قلت: أنا أحمد النبي المبعوث، أفأنت يا أمير المؤمنين ممن يحمده؟ فاستظرفه، وأمر بإنصافه.
وخرج شريح القاضي من عند زياد، وتركه يجود بنفسه، فسأله الناس عن حاله فقال: تركته يأمر وينهي، فجزعوا لسلامته، فما راعهم إلا صياح النائحات عليه، فسئل شريح عن قوله، فقال: تركته يأمر بالوصية، وينهي عن البكاء.
1 / 53