Glimpses from the Wonders of Our Civilization
مقتطفات من كتاب من روائع حضارتنا
Mai Buga Littafi
دار الوراق للنشر والتوزيع،بيروت
Lambar Fassara
الأولى
Shekarar Bugawa
١٤٢٠ هـ - ١٩٩٩ م
Inda aka buga
المكتب الإسلامي
Nau'ikan
ـ[مقتطفات من كتاب من روائع حضارتنا]ـ
المؤلف: مصطفى بن حسني السباعي (المتوفى: ١٣٨٤هـ)
الناشر: دار الوراق للنشر والتوزيع، بيروت، المكتب الإسلامي
الطبعة: الأولى، ١٤٢٠ هـ - ١٩٩٩ م
عدد الأجزاء: ١
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
_________
(تنبيه): هذا الكتاب الإلكتروني هو مقتطفات من المطبوع وليس المطبوع نفسه
بسم الله الرحمن الرحيم (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ). آل عمران - ١١٠ توحيد المفاهيم العمل الطلابي العمل الطلابي عمل رائد، يمثل ذروة الوعي بقضايا الأمة، وطليعة كل تحرك إيجابي لمصلحتها .. ولذا وجب العناية به وتسديده وإرشاده. وكما هو الحال دائما، فإن العمل الصحيح ينطلق من مفاهيم قويمة وأفكار ناضجة، تهدي العاملين إلى الطريق الصحيح وتقوم أي إعوجاج وتجبر كل تقصير .. غير أن الامتداد الكبير للعمل الطلابي عبر الزمان والمكان، وانتشار كوادره في أرجاء الدنيا وفي أجيال متتابعة، بالإضافة إلى صعوبة التواصل بين الكوادر العاملة في العمل الطلابي .. هذا الامتداد الواسع والصلات الصعبة أتاح الفرصة لتباين الآراء واختلاف المصطلحات وتنوع المفاهيم، بحيث أصبحت هذه الظاهرة خطرا حقيقيا يحيق بالعمل الطلابي على مستوى العالم. وحتى لا يترك هذا العمل الهام لاجتهادات محلية قد تصيب وقد تخطئ، أو لتجارب مبتسرة قد تعبر عن كامل الصورة وقد تقصر .. وحتى لا تخضع المفاهيم الأساسية في العمل لتفسيرات متباينة، فينشأ الخلاف وتتسع رقعته .. حتى لا يحدث ذلك كله، كان لا بد من العمل على توحيد المفاهيم الأساسية بين العاملين .. والاتفاق على تعريفات واضحة لما يطلق من كلمات ومصطلحات وأقوال، قد يفهمها الجميع بشكل متباين، حسب الثقافات والمجتمعات والبيئات المختلفة. سلسلة توحيد المفاهيم وعليه فقد بادر اتحاد المنظمات الطلابية إلى إصدار سلسلة من الكتب تحت مسمى (سلسلة توحيد المفاهيم)، وتم تقسيم المفاهيم المراد توحيدها بين العاملين في المجال الطلابي إلى أربع مجموعات يتضمن كل منها عددًا من المفاهيم. أولا- المفاهيم الدعوية ١ - بين الحق والباطل - عبد الكريم زيدان. وهو بحث في سنة الله الكونية في التدافع بين الحق والباطل وكيفية تسخير هذه السنة لصالح العمل. ٢ - الشورى ودورها في إصلاح الفرد والمجتمع. ٣ - العمل الجماعي (أهميته ومشروعيته). ٤ - بشائر النصر. ٥ - فقه الأولويات في ضوء القرآن والسنة - د. يوسف القرضاوي. ٦ - من روائع حضارتنا - د. مصطفى السباعي. ٧ - الإسلام ... والتعامل مع الآخر. ثانيا- المفاهيم التربوية ٨ - جدد حياتك - محمد الغزالي. ٩ - آداب السلوك في الإسلام. ثالثا- المفاهيم الإدارية ١٠ - إدارة الوقت. رابعا- المفاهيم السياسية ١١ - القدس والتحدي الحضاري. ١٢ - ماذا بعد أحداث سبتمبر؟ ١٣ - كيف تواجه الأمة المسلمة التحدي الصهيوني؟ مقدمة الكتاب ضمن سلسلة توحيد المفاهيم الدعوية والتربوية والإدارية والسياسية، التي نقدمها للشباب والطلاب في أنحاء العالم، نقدم اليوم كتاب من روائع حضارتنا للأستاذ الدكتور مصطفى السباعي .. وهو من أهم الكتب التي كتبت في موضوعه .. ويوم نشرها كاتبها كان يقصد أن يلفت الأنظار إلى هذه الروائع كدليل على استطاعتنا بناء حضارة أكمل وأسمى من هذه الحضارة، وأن نذكر الجيل الجديد من أبناء أمتنا بواجبهم في بناء حضارة إنسانية كريمة كما بنى آباؤهم أمثالها، وهذا أنسب الأوقات لمثل هذا التذكير، فأمتنا تدخل الآن باب التاريخ من جديد دخولًا كريمًا فيه كل تحضر وانطلاق لبناء مستقبل أفضل وأكمل، وفي أمتنا بقايا من سجايا الآباء والأجداد، فإذا سمعت حديث أمجادهم وآثارهم وحضارتهم هزّها ذلك هزًا عنيفًا ودفعها إلى العمل دفعًا حثيثًا. ونحن بدورنا .. نعيد نشر هذا الكتاب ليكون دليلًا حضاريًا لإخواننا وأبنائنا الطلبة في أنحاء العالم .. فالعمل الطلابي اليوم هو ذروة الوعي بقضايا الأمة، وطليعة كل تحرك إيجابي لإعادة بنائها .. وهو يحتاج إلى توجيه وتذكير وحسن إعداد .. وتقوم سلسلة توحيد المفاهيم بهذا الدور. والحمد لله رب العالمين. مصطفى محمد الطحان ٢٦/ ٩/٢٠٠٦م
مقدمة المؤلف الحمد لله رب العالمين وصلى الله على باني أنبل حضارة عرفها التاريخ سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه الذين بنوا أصرح تلك الحضارة الشامخة بدمائهم وجهودهم فكان لهم الفضل على كل من نَعِمَ بخيراتها إلى يوم الدين. وبعد فموضوع هذا الكتاب هو أحاديث أذعتها من محطة إذاعة دمشق في الفترة الواقعة بين ٢٠ من المحرم ١٣٧٥هالموافق ٨ من أيلول (سبتمبر) ١٩٥٥م عرضت فيها نماذج من الجوانب الرائعة في حضارتنا، وهي جوانب لا تزال تأخذ بألباب كل باحث منصف، ولم أتقصّ كل مظاهر الروعة في حضارتنا ولا قصدت تحليلها علميًا، لأنني كنت أتحدث إلى جماهير المستمعين ممن يتفاوتون في المستوى الفكري والثقافي، وكان يهمني أن يصغى إليها أولئك الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، من صفوة شبابنا ورجال الفكر المؤمن بكرامتنا على الله وعلى التاريخ، ولم يتسع لي الوقت لمتابعة هذه الأحاديث، إذ كنت أستعد للسفر في رحلة علمية إلى ديار الغرب تمت عام ١٩٥٦م، وقد كنت أود أن أتحدث عن روائع كثيرة، منها تلك النماذج الإنسانية للروحانية الإيجابية في تاريخ حضارتنا، ممن كانوا على قدر كبير من الإيمان بالله، والاتباع للحق، والسمو في النفس، والإشراق في الروح، والجمال في الخلق، والرحمة للناس، والعدل في الحكم، هذا مع مساهمتهم في صميم الحضارة ووجودهم في صميم الحياة، سواء كانوا ملوكًا أم علماء، أو زهادًا، أم فلاسفة، أم قوادًا، أم حكامًا، أم تجارًا، رجالًا ونساءً، شيوخًا وشبابًا، أغنياء وفقراء، إنها نماذج للكمال الإنساني الذي لم يكن يعيش في خيال الفلاسفة والحكماء، بل كان يعيش على ظهر الأرض مع أهل الأرض. هذه الروحانية الإيجابية بأمثلتها الرائعة هي مما تفردت به حضارتنا عن سائر الحضارات قديمها وحديثها، فلقد عرف التاريخ رجالًا روحانيين في الأمم المختلفة وخاصة في أمم الشرق الأقصى، ويعيش اليوم أناس تغلب عليهم النزعة الروحية الصافية، ولكن هؤلاء وأولئك كانوا سلبيين مع الحضارة، مترفعين عن المساهمة فيها، يعيشون في الأديرة ورؤوس الجبال، أو في المغاور والصحارى، أما نماذجنا الروحية في تاريخ حضارتنا فقد كانوا يخوضون معركة بناء الحياة بكل ما تتطلبه المعركة من عمل وجهد وتضحية وفداء، وهذا هو سر الروعة في هذه النماذج الروحية العجيبة في تاريخ الحضارات. والقصد اليوم من نشر هذه الأحاديث أن نلفت الأنظار إلى هذه الروائع كدليل على استطاعتنا بناء حضارة أكمل وأسمى من هذه الحضارة، وأن نُذكر الجيل الجديد من أبناء أمتنا بواجبهم في بناء حضارة إنسانية كريمة كما بنى آباؤهم أمثالها، وهذا أنسب الأوقات لمثل هذا التذكير، فأمتنا تدخل الآن باب التاريخ من جديد دخولًا كريمًا فيه كل تحفز وانطلاق لبناء مستقبل أفضل وأكمل، وفي أمتنا بقايا من سجايا الآباء والأجداد فإذا سمعت حديث أمجادهم وآثارهم وحضارتهم هزّها ذلك هزًا عنيفًا ودفعها إلى العمل دفعًا حثيثًا. فلا تُسمعوه ما أقول فإنه شجاع متى يُذكر له الطعن يشتق ولسنا نقصد من عرض هذه الروائع الادعاء بأن كل ما في حضارتنا جميل ومشرق، فليس في التاريخ حضارة ليست لها هفوات، وإنما القصد أيضًا أن نثبت أن الجوانب الإنسانية الخالدة في حضارتنا أقوى وأجمل، وأن نرد بذلك على افتراء الذين يزعمون لحضارتنا كل عيب ونقيصه، ويتعمدون أن يحذفوها من قائمة الحضارات الأصلية، وأن نحبط بذلك كيد الذين يعملون على أن يصرفوا أنظار جيلنا الحديث عن روائع آثارنا الحضارية، ليجذبوهم إلى حضارة تكشفت مقاتلها للناس، وإلى تاريخ أمم إن كانت لها صفحة واحدة من الفضائل، فإن لها آلاف الصفحات من النقائص والرذائل، وهذا هو هدف الاستعمار الذي يسعى إليه جاهدًا، وذلك هو صنيع أذنابه ودعاته الذين ما برحوا على تمجيد حضارته عاكفين. وإذا كنت قد عرضت في هذا الكتاب (نماذج) من روائع حضارتنا فإني لأرجو أن يتم الدارسون لتاريخ حضارتنا ما بدأته من عرض هذه الروائع، بشكل أتم وبحث أوفى وبيان أبلغ وأنصع، لإعطاء جيلنا الحاضر صورة حقيقية كاملة الروعة عن هذه الحضارة التي كانت تشع النور وتبعث الحياة في القرون الوسطى، فلا حاضر لأمة تجهل ماضيها، ولا مستقبل لأمة تنكر خصائصها وفضائلها، وهي مما تتصل بالحضارة بأوفى سبب وأقوى نسب، وإذا كان الوقوف على الماضي للبكاء عليه والنحيب، هو شغل الكسالى العاطلين، فإن تجاهله وازدراءه مع ما يفيض به من خير واسع ونور رحيب، هو شأن الحاقدين أو الجاهلين. ومن الخير أن نستفيد من كنوزنا في بناء نهضتنا العتيدة، لتكون النهضة مأمونة العواقب، غنية بما يمد لها من أسباب النجاح والبقاء، واضحة الملامح فيما تهدف إليه من كرامة وهناء، متصلة أمجادها بأمجاد الماضي، لتتصل أمجاد المستقبل بأمجادها، فيستمر الموكب، وتنسجم الحلقة ويكتمل البناء. والله من وراء القصد وهو ولي التوفيق مصطفى حسني السباعي
بسم الله الرحمن الرحيم (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ). آل عمران - ١١٠ توحيد المفاهيم العمل الطلابي العمل الطلابي عمل رائد، يمثل ذروة الوعي بقضايا الأمة، وطليعة كل تحرك إيجابي لمصلحتها .. ولذا وجب العناية به وتسديده وإرشاده. وكما هو الحال دائما، فإن العمل الصحيح ينطلق من مفاهيم قويمة وأفكار ناضجة، تهدي العاملين إلى الطريق الصحيح وتقوم أي إعوجاج وتجبر كل تقصير .. غير أن الامتداد الكبير للعمل الطلابي عبر الزمان والمكان، وانتشار كوادره في أرجاء الدنيا وفي أجيال متتابعة، بالإضافة إلى صعوبة التواصل بين الكوادر العاملة في العمل الطلابي .. هذا الامتداد الواسع والصلات الصعبة أتاح الفرصة لتباين الآراء واختلاف المصطلحات وتنوع المفاهيم، بحيث أصبحت هذه الظاهرة خطرا حقيقيا يحيق بالعمل الطلابي على مستوى العالم. وحتى لا يترك هذا العمل الهام لاجتهادات محلية قد تصيب وقد تخطئ، أو لتجارب مبتسرة قد تعبر عن كامل الصورة وقد تقصر .. وحتى لا تخضع المفاهيم الأساسية في العمل لتفسيرات متباينة، فينشأ الخلاف وتتسع رقعته .. حتى لا يحدث ذلك كله، كان لا بد من العمل على توحيد المفاهيم الأساسية بين العاملين .. والاتفاق على تعريفات واضحة لما يطلق من كلمات ومصطلحات وأقوال، قد يفهمها الجميع بشكل متباين، حسب الثقافات والمجتمعات والبيئات المختلفة. سلسلة توحيد المفاهيم وعليه فقد بادر اتحاد المنظمات الطلابية إلى إصدار سلسلة من الكتب تحت مسمى (سلسلة توحيد المفاهيم)، وتم تقسيم المفاهيم المراد توحيدها بين العاملين في المجال الطلابي إلى أربع مجموعات يتضمن كل منها عددًا من المفاهيم. أولا- المفاهيم الدعوية ١ - بين الحق والباطل - عبد الكريم زيدان. وهو بحث في سنة الله الكونية في التدافع بين الحق والباطل وكيفية تسخير هذه السنة لصالح العمل. ٢ - الشورى ودورها في إصلاح الفرد والمجتمع. ٣ - العمل الجماعي (أهميته ومشروعيته). ٤ - بشائر النصر. ٥ - فقه الأولويات في ضوء القرآن والسنة - د. يوسف القرضاوي. ٦ - من روائع حضارتنا - د. مصطفى السباعي. ٧ - الإسلام ... والتعامل مع الآخر. ثانيا- المفاهيم التربوية ٨ - جدد حياتك - محمد الغزالي. ٩ - آداب السلوك في الإسلام. ثالثا- المفاهيم الإدارية ١٠ - إدارة الوقت. رابعا- المفاهيم السياسية ١١ - القدس والتحدي الحضاري. ١٢ - ماذا بعد أحداث سبتمبر؟ ١٣ - كيف تواجه الأمة المسلمة التحدي الصهيوني؟ مقدمة الكتاب ضمن سلسلة توحيد المفاهيم الدعوية والتربوية والإدارية والسياسية، التي نقدمها للشباب والطلاب في أنحاء العالم، نقدم اليوم كتاب من روائع حضارتنا للأستاذ الدكتور مصطفى السباعي .. وهو من أهم الكتب التي كتبت في موضوعه .. ويوم نشرها كاتبها كان يقصد أن يلفت الأنظار إلى هذه الروائع كدليل على استطاعتنا بناء حضارة أكمل وأسمى من هذه الحضارة، وأن نذكر الجيل الجديد من أبناء أمتنا بواجبهم في بناء حضارة إنسانية كريمة كما بنى آباؤهم أمثالها، وهذا أنسب الأوقات لمثل هذا التذكير، فأمتنا تدخل الآن باب التاريخ من جديد دخولًا كريمًا فيه كل تحضر وانطلاق لبناء مستقبل أفضل وأكمل، وفي أمتنا بقايا من سجايا الآباء والأجداد، فإذا سمعت حديث أمجادهم وآثارهم وحضارتهم هزّها ذلك هزًا عنيفًا ودفعها إلى العمل دفعًا حثيثًا. ونحن بدورنا .. نعيد نشر هذا الكتاب ليكون دليلًا حضاريًا لإخواننا وأبنائنا الطلبة في أنحاء العالم .. فالعمل الطلابي اليوم هو ذروة الوعي بقضايا الأمة، وطليعة كل تحرك إيجابي لإعادة بنائها .. وهو يحتاج إلى توجيه وتذكير وحسن إعداد .. وتقوم سلسلة توحيد المفاهيم بهذا الدور. والحمد لله رب العالمين. مصطفى محمد الطحان ٢٦/ ٩/٢٠٠٦م
مقدمة المؤلف الحمد لله رب العالمين وصلى الله على باني أنبل حضارة عرفها التاريخ سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه الذين بنوا أصرح تلك الحضارة الشامخة بدمائهم وجهودهم فكان لهم الفضل على كل من نَعِمَ بخيراتها إلى يوم الدين. وبعد فموضوع هذا الكتاب هو أحاديث أذعتها من محطة إذاعة دمشق في الفترة الواقعة بين ٢٠ من المحرم ١٣٧٥هالموافق ٨ من أيلول (سبتمبر) ١٩٥٥م عرضت فيها نماذج من الجوانب الرائعة في حضارتنا، وهي جوانب لا تزال تأخذ بألباب كل باحث منصف، ولم أتقصّ كل مظاهر الروعة في حضارتنا ولا قصدت تحليلها علميًا، لأنني كنت أتحدث إلى جماهير المستمعين ممن يتفاوتون في المستوى الفكري والثقافي، وكان يهمني أن يصغى إليها أولئك الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، من صفوة شبابنا ورجال الفكر المؤمن بكرامتنا على الله وعلى التاريخ، ولم يتسع لي الوقت لمتابعة هذه الأحاديث، إذ كنت أستعد للسفر في رحلة علمية إلى ديار الغرب تمت عام ١٩٥٦م، وقد كنت أود أن أتحدث عن روائع كثيرة، منها تلك النماذج الإنسانية للروحانية الإيجابية في تاريخ حضارتنا، ممن كانوا على قدر كبير من الإيمان بالله، والاتباع للحق، والسمو في النفس، والإشراق في الروح، والجمال في الخلق، والرحمة للناس، والعدل في الحكم، هذا مع مساهمتهم في صميم الحضارة ووجودهم في صميم الحياة، سواء كانوا ملوكًا أم علماء، أو زهادًا، أم فلاسفة، أم قوادًا، أم حكامًا، أم تجارًا، رجالًا ونساءً، شيوخًا وشبابًا، أغنياء وفقراء، إنها نماذج للكمال الإنساني الذي لم يكن يعيش في خيال الفلاسفة والحكماء، بل كان يعيش على ظهر الأرض مع أهل الأرض. هذه الروحانية الإيجابية بأمثلتها الرائعة هي مما تفردت به حضارتنا عن سائر الحضارات قديمها وحديثها، فلقد عرف التاريخ رجالًا روحانيين في الأمم المختلفة وخاصة في أمم الشرق الأقصى، ويعيش اليوم أناس تغلب عليهم النزعة الروحية الصافية، ولكن هؤلاء وأولئك كانوا سلبيين مع الحضارة، مترفعين عن المساهمة فيها، يعيشون في الأديرة ورؤوس الجبال، أو في المغاور والصحارى، أما نماذجنا الروحية في تاريخ حضارتنا فقد كانوا يخوضون معركة بناء الحياة بكل ما تتطلبه المعركة من عمل وجهد وتضحية وفداء، وهذا هو سر الروعة في هذه النماذج الروحية العجيبة في تاريخ الحضارات. والقصد اليوم من نشر هذه الأحاديث أن نلفت الأنظار إلى هذه الروائع كدليل على استطاعتنا بناء حضارة أكمل وأسمى من هذه الحضارة، وأن نُذكر الجيل الجديد من أبناء أمتنا بواجبهم في بناء حضارة إنسانية كريمة كما بنى آباؤهم أمثالها، وهذا أنسب الأوقات لمثل هذا التذكير، فأمتنا تدخل الآن باب التاريخ من جديد دخولًا كريمًا فيه كل تحفز وانطلاق لبناء مستقبل أفضل وأكمل، وفي أمتنا بقايا من سجايا الآباء والأجداد فإذا سمعت حديث أمجادهم وآثارهم وحضارتهم هزّها ذلك هزًا عنيفًا ودفعها إلى العمل دفعًا حثيثًا. فلا تُسمعوه ما أقول فإنه شجاع متى يُذكر له الطعن يشتق ولسنا نقصد من عرض هذه الروائع الادعاء بأن كل ما في حضارتنا جميل ومشرق، فليس في التاريخ حضارة ليست لها هفوات، وإنما القصد أيضًا أن نثبت أن الجوانب الإنسانية الخالدة في حضارتنا أقوى وأجمل، وأن نرد بذلك على افتراء الذين يزعمون لحضارتنا كل عيب ونقيصه، ويتعمدون أن يحذفوها من قائمة الحضارات الأصلية، وأن نحبط بذلك كيد الذين يعملون على أن يصرفوا أنظار جيلنا الحديث عن روائع آثارنا الحضارية، ليجذبوهم إلى حضارة تكشفت مقاتلها للناس، وإلى تاريخ أمم إن كانت لها صفحة واحدة من الفضائل، فإن لها آلاف الصفحات من النقائص والرذائل، وهذا هو هدف الاستعمار الذي يسعى إليه جاهدًا، وذلك هو صنيع أذنابه ودعاته الذين ما برحوا على تمجيد حضارته عاكفين. وإذا كنت قد عرضت في هذا الكتاب (نماذج) من روائع حضارتنا فإني لأرجو أن يتم الدارسون لتاريخ حضارتنا ما بدأته من عرض هذه الروائع، بشكل أتم وبحث أوفى وبيان أبلغ وأنصع، لإعطاء جيلنا الحاضر صورة حقيقية كاملة الروعة عن هذه الحضارة التي كانت تشع النور وتبعث الحياة في القرون الوسطى، فلا حاضر لأمة تجهل ماضيها، ولا مستقبل لأمة تنكر خصائصها وفضائلها، وهي مما تتصل بالحضارة بأوفى سبب وأقوى نسب، وإذا كان الوقوف على الماضي للبكاء عليه والنحيب، هو شغل الكسالى العاطلين، فإن تجاهله وازدراءه مع ما يفيض به من خير واسع ونور رحيب، هو شأن الحاقدين أو الجاهلين. ومن الخير أن نستفيد من كنوزنا في بناء نهضتنا العتيدة، لتكون النهضة مأمونة العواقب، غنية بما يمد لها من أسباب النجاح والبقاء، واضحة الملامح فيما تهدف إليه من كرامة وهناء، متصلة أمجادها بأمجاد الماضي، لتتصل أمجاد المستقبل بأمجادها، فيستمر الموكب، وتنسجم الحلقة ويكتمل البناء. والله من وراء القصد وهو ولي التوفيق مصطفى حسني السباعي
Shafi da ba'a sani ba
خصائص حضارتنا
يعرِّف الحضارة بعض الكاتبين في تاريخها بأنها (نظام اجتماعي يعين الإنسان على الزيادة من إنتاجه الثقافي) وتتألف الحضارة من العناصر الأربعة الرئيسية: الموارد الاقتصادية، والنظم السياسية، والتقاليد الخلقية، ومتابعة العلوم والفنون. ولإطراد الحضارة وتقدمها عوامل متعددة من جغرافية وإقتصادية ونفسية كالدين واللغة والتربية، ولانهيارها عوامل هي عكس تلك العوامل التي تؤدي إلي قيامها وتطورها، ومن أهمها الإنحلال الخلقي والفكري، واضطراب القوانين والأنظمة، وشيوع الظلم والفقر، وانتشار التشاؤم واللامبالاة، وفقدان الموجهين الأكفاء والزعماء المخلصين .. وقصة الحضارة تبدأ مند عُرف الإنسان، وهي حلقة متصلة تسلمها الأمة المتحضرة إلي من
1 / 69
بعدها، ولا تختص بأرض ولا عرق، وإنما تنشأ من العوامل السابقة التي ذكرناها. ولا تكاد أمة تخلو من تسجيل بعض الصفحات في تاريخ الحضارة، غير أن ما تمتاز به حضارة عن حضارة إنما هو قوة الأسس التي تقوم عليها، والتأثير الكبير الذي يكون لها، والخير العميم الذي يصيب الإنسانية من قيامها، وكلما كانت الحضارة عالمية في رسالتها، إنسانية في نزعتها، خلقية في اتجاهاتها، واقعية في مبادئها، كانت أخلد في التاريخ، وأبقي علي الزمن، وأجدر بالتكريم.
وحضارتنا حلقة من سلسلة الحضارات الإنسانية، سبقتها حضارات وستتبعها حضارات. وقد كان لقيام حضارتنا عوامل، ولانهيارها أسباب، ليست هي ما تعنيه هذه السلسلة من أحاديثنا، وإنما نريد قبل أن نبدأ الحديث عن روائع هذه الحضارة، أن نتحدث عن دورها الخطير في تاريخ التقدم الإنساني، ومدي ما قدمته في ميدان العقيدة والعلم والخلق والحكم والفن والأدب من أياد خالدة علي الإنسانية في مختلف شعوبها وأقطارها.
إن أبرز ما يلفت نظر الدارس لحضارتنا أنها تميزت بالخصائص التالية:
١ - أنها قامت علي أساس الوحدانية المطلقة في
1 / 70
العقيدة، فهي أول حضارة تنادي بالإله الواحد الذي لا شريك له في حكمه وملكه، وهو وحده الذي يعبد، وهو وحده الذي يقصد ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ وهو الذي يعز ويذل ويعطي ويمنح، وما من شيء في السموات والأرض إلا وهو تحت قدرته وفي متناول قبضته.
هذا السمو في فهم الوحدانية كان له أثر كبير في رفع مستوي الإنسان وتحرير الجماهير من طغيان الملوك والأشراف والأقوياء ورجال الدين، وتصحيح العلاقة بين الحاكمين والمحكومين، وتوجيه الأنظار إلي الله وحده وهو خالق الخلق ورب العالمين .. كما كان لهذه العقيدة أثر كبير في الحضارة الإسلامية تكاد تتميز به عن كل الحضارات السابقة واللاحقة، وهي خلوها من كل مظاهر الوثنية وآدابها وفلسفتها في العقيدة والحكم والفن والشعر والأدب، وهذا هو سر إعراض الحضارة الإسلامية عن ترجمة الإلياذة وروائع الأدب اليوناني الوثني، وهو سر تقصير الحضارة الإسلامية في فنون النحت والتصوير مع تبريزها في فنون النقش والحفر وزخرفة البناء. إن الإسلام الذي أعلن الحرب العوان علي الوثنية ومظاهرها لم يسمح لحضارته أن تقوم فيها مظاهر الوثنية وبقاياها المستمرة من أقدم عصور التاريخ،
1 / 71
كتماثيل العظماء والصالحين والأنبياء والفاتحين. وقد كانت التماثيل من أبرز مظاهر الحضارات القديمة والحضارة الحديثة، لأن واحدة منها لم تذهب في عقيدة الوحدانية إلي المدى الذي وصلت إليه الحضارة الإسلامية.
وهذه الوحدة في العقيدة تطبع كل الأسس والنظم التي جاءت بها حضارتنا، فهنالك الوحدة في الرسالة، والوحدة في التشريع، والوحدة في الأهداف العامة، والوحدة في الكيان الإنساني العام، والوحدة في وسائل المعيشة وطراز التفكير، حتى أن الباحثين في الفنون الإسلامية قد لحظوا وحدة الأسلوب والذوق في أنواعها المختلفة، فقطعة من العاج الأندلسي، وأخري من النسيج المصري، وثالثة من الخزف الشامي، ورابعة من المعادن الإيرانية، تبدو رغم تنوع أشكالها وزخرفتها ذات أسلوب واحد وطابع واحد.
٢ - وثاني خصائص حضارتنا أنها إنسانية النزعة والهدف، عالمية الأفق والرسالة، فالقرآن الذي أعلن وحدة النوع الإنساني رغم تنوع أعراقه ومنابته ومواطنه، في قوله تعالي: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ
1 / 72
أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ (١). إن القرآن حين أعلن هذه الوحدة الإنسانية العالمية علي صعيد الحق والخير والكرامة جعل حضارته عقدا تنتظم فيه جميع العبقريات للشعوب والأمم التي خفقت فوقها راية الفتوحات الإسلامية، ولذلك كانت كل حضارة تستطيع أن تفاخر بالعباقرة من أبناء جنس واحد وأمة واحدة، إلا الحضارة الإسلامية فإنها تفاخر بالعباقرة الذين أقاموا صرحها من جميع الأمم والشعوب، فأبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد والخليل وسيبويه والكندي والغزالي، والفارابي، وابن رشد وأمثالهم ممن اختلفت أصولهم وتباينت أوطانهم، ليسوا إلا عباقرة قدمت فيهم الحضارة الإسلامية إلي الإنسانية أروع نتاج الفكر الإنساني السليم.
٣ - وثالث خصائص حضارتنا أنها جعلت للمبادئ الأخلاقية المحل الأول في كل نظمها ومختلف ميادين نشاطها، وهي لم تتخل عن هذه المبادئ قط، ولم تجعلها وسيلة لمنفعة دولة أو جماعة، أو أفراد .. في الحكم، وفي العلم وفي التشريع، وفي الحرب، وفي السلم، وفي الاقتصاد، وفي الأسرة .. روعيت
_________
(١) الحجرات- ١٣.
1 / 73
المبادئ الأخلاقية تشريعا وتطبيقا، وبلغت في ذلك شأوا ساميا بعيدا لم تبلغه حضارة في القديم والحديث. ولقد تركت الحضارة الإسلامية في ذلك آثارا تستحق الإعجاب وتجعلها وحدها من بين الحضارات التي كفلت سعادة الإنسانية سعادة خالصة لا يشوبها شقاء ..
٤ - ورابع هذه الخصائص أنها تؤمن بالعلم في أصدق أصوله، وترتكز علي العقيدة في أصفي مبادئها، فهي خاطبت العقل والقلب معا، وأثارت العاطفة والفكر في وقت واحد. وهي ميزة لم تشاركها فيها حضارة في التاريخ. وسر العجب في هذه الخاصة من خصائص حضارتنا أنها استطاعت أن تنشئ نظاما للدولة قائما علي مبادئ الحق والعدالة، مرتكزا إلي الدين والعقيدة دون أن يقيم الدين عائقا من دون رقي الدولة واطراد الحضارة، بل كان الدين من أكبر عوامل الرقي فيها، فمن بين جدران المساجد في بغداد ودمشق والقاهرة وقرطبة وغرناطة انطلقت أشعة العلم إلي أنحاء الدنيا قاطبة. إن الحضارة الإسلامية هي الوحيدة التي لم يُفصل فيها الدين عن الدولة مع نجاتها من كل مآسي المزج بينهما كما عرفته أوروبا في القرون الوسطى. لقد كان رئيس الدولة خليفة وأميرا للمؤمنين، لكن الحكم عنده للحق، والتشريع للمختصين فيه، ولكل فئة من
1 / 74
العلماء اختصاصهم والجميع يتساوون أمام القانون، والتفاضل بالتقوى والخدمة العامة للناس (والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها) (١) (الخلق كلهم عيال الله فأحبهم إليه أنفعهم لعياله) (٢) هذا هو الدين الذي قامت عليه حضارتنا، ليس فيه امتياز لرئيس، ولا لرجل دين، ولا لشريف ولا لغني .. ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ﴾ (٣).
٥ - وآخر ما نذكر من خصائص حضارتنا هذا التسامح الديني العجيب الذي لم تعرفه حضارة مثلها قامت علي الدين. إن الذي لا يؤمن بدين ولا بإله، لا يبدو عجيبا إذا نظر إلي الأديان كلها علي حد سواء، وإذا عامل أتباعها بالقسطاس المستقيم، ولكن صاحب الدين الذي يؤمن بأن دينه حق وأن عقيدته أقوم العقائد وأصحها، ثم يتاح له أن يحمل السيف، ويفتح المدن، ويستولي علي الحكم، ويجلس علي منصة القضاء، ثم لا يحمله إيمانه بدينه، واعتزازه بعقيدته، علي أن يجور في الحكم، أو أن ينحرف عن سنن العدالة، أو يحمل الناس على اتباع دينه .. إن رجلا مثل هذا لعجيب أن
_________
(١) رواه البخاري وسلم.
(٢) رواه البزار.
(٣) الكهف- ١١٠.
1 / 75
يكون في التاريخ، فكيف إذا وجد في التاريخ حضارة قامت علي الدين وشادت قواعدها علي مبادئه، ثم هي من أشد ما عرف التاريخ تسامحا وعدالة ورحمة وإنسانية! .. هذا ما صنعته حضارتنا وسنجد له عشرات الأمثلة فيما نذكره في أحاديثنا المقبلة. وحسبنا أن نعرف أن حضارتنا تنفرد في التاريخ بأن الذي أقامها دين واحد، ولكنها كانت للأديان جميعا.
1 / 76
وبعد فأعتقد أني بلغت ما أريد من لفت الأنظار إلى دراسة حضارتنا وإن لم أبلغ ما أريد من توفية هذا البحث حقه، وحسبي أن أعرض في الأحاديث التالية نماذج من روائع حضارتنا نستدل بها على خلود الحضارة التي شادتها الأمة التي وصفها أعدل حاكم وأصدق قائل بأنها: (خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) (١).
_________
(١) آل عمران- ١١٠.
1 / 79
آثار حضارتنا في التاريخ
تكلمنا في الحديث الماضي عن الخصائص البارزة لحضارتنا، وقلنا إن الحضارات إنما تخلد بمقدار ما تقدمه في تاريخ الإنسانية من آثار خالدة في مختلف النواحي الفكرية والخلقية، والمادية، وأن حضارتنا لعبت دورًا خطيرًا في تاريخ التقدم الإنساني، وتركت في ميادين العقيدة والعلم والحكم والفلسفة والفن والأدب وغيرها آثارًا بعيدة المدى قوية التأثير فيما وصلت إليه الحضارة الحديثة، فما هي الآثار؟ وما هي أهميتها؟
نستطيع أن نجمل الآثار الخالدة لحضارتنا في ميادين خمسة رئيسية:
أولًا- في ميدان العقيدة والدين: فقد كان
1 / 80
لمبادئ الحضارة الإسلامية أثر كبير في حركات الإصلاح الدينية التي قامت في أوروبا منذ القرن السابع حتى عصر النهضة الحديثة، فالإسلام الذي أعلن وحدة الله وانفراده بالسلطان وتنزيهه عن التجسيم والظلم والنقص، كما أعلن استقلال الإنسان في عبادته وصلته مع الله وفهمه لشرائعه دون وساطة رجال الدين، كان عاملًا كبيرًا في تفتح أذهان الشعوب إلى هذه المبادئ القوية الرائعة، وقد كانت الشعوب يومئذ ترسف في أغلال من الخصام المذهبي العنيف والخضوع لسلطان رجال الدين على أفكارهم وآرائهم وأموالهم وأبدانهم! فمن الطبيعي وقد وصلت فتوحاته في الشرق والغرب إلى ما وصلت إليه، أن تتأثر الأمم المجاورة له بمبادئه في العقيدة قبل كل شيء.
وهذا ما حدث فعلًا، إذ قام في القرن السابع الميلادي في الغربيين من ينكر عبادة الصور، ثم قام بعدهم من ينكر الوساطة بين الله وعباده، ويدعو إلى الاستقلال في فهم الكتب المقدسة بعيدًا عن سلطان رجال الدين ومراقبتهم. ويؤكد كثير من الباحثين أن (لوثر) في حركته الإصلاحية كان متأثرًا بما قرأه للفلاسفة العرب والعلماء المسلمين من آراء في الدين والعقيدة والوحي، وقد كانت الجامعات الأوروبية في عصره لا تزال
1 / 81
تعتمد على كتب الفلاسفة المسلمين التي ترجمت منذ عهد بعيد إلى اللاتينية، ونستطيع أن نؤكد بأن حركة الفصل بين الدين والدولة التي أُعلنت في الثورة الفرنسية كانت وليد الحركات الفكرية العنيفة التي سادت أوروبا ثلاثة قرون أو أكثر، وكان لحضارتنا فضل في إيقاد جذوتها عن طريق الحروب الصليبية والأندلس.
ثانيا- في ميدان الفلسفة والعلوم: من طب ورياضيات وكيمياء وجغرافيا وفلك. أفاقت أوروبا على صوت علمائنا وفلاسفتنا يدرّسون هذه العلوم في مساجد إشبيلية وقرطبة وغرناطة وغيرها، وكان رواد الغربيين الأُول إلى مدارسنا شديدي الإعجاب والشغف بكل ما يستمعون إليه من هذه العلوم في جو من الحرية لا يعرفون له مثيلًا في بلادهم. ففي الوقت الذي كان فيه علماؤنا يتحدثون في حلقاتهم العلمية ومؤلفاتهم عن دوران الأرض وكرويتها، وحركات الأفلاك والأجرام السماوية، كانت عقول الأوروبيين تمتلئ بالخرافات والأوهام عن هذه الحقائق كلها! ومن ثم ابتدأت عند الغربيين حركة الترجمة من العربية إلى اللاتينية وغدت كتب علمائنا تُدرّس في الجامعات الغربية. فقد تُرجم كتاب (القانون) في الطب لابن سينا في القرن الثاني عشر، كما تُرجم كتاب (الحاوي) للرازي وهو
1 / 82
أوسع من القانون وأضخم، في نهاية القرن الثالث عشر، وظل هذان الكتابان عمدة لتدريس الطب في الجامعات الأوروبية حتى القرن السادس عشر، أما كتب الفلسفة فقد استمرت أكثر من ذلك، ولم يعرف الغرب فلسفة اليونان إلا عن طريق مؤلفاتنا وترجماتنا.
ومن هنا يعترف كثير من الغربيين المنصفين بأننا كنا في القرون الوسطى أساتذة أوروبا مدةً لا تقل عن ستمائة سنة.
1 / 83
يقول العلامة المستشرق سيديو: (كان العرب وحدهم حاملين لواء الحضارة الوسطى فدحروا بربرية أوروبا التي زلزلتها غارات قبائل الشمال، وسار العرب إلى (منابع فلسفة اليونان الخالدة) فلم يقفوا عند حد ما اكتسبوه من كنوز المعرفة بل وسعوه وفتحوا أبوابًا جديدة لدرس الطبيعة)، ويقول أيضًا: (والعرب حين زاولوا علم الهيأة عنوا عناية خاصة بالعلوم الرياضية كلها فكان لهم فيها القدح المعلّي، فكانوا أساتذة لنا في هذا المضمار بالحقيقة).
وإذا كان روجر الأول قد شجع على تحصيل علوم العرب في صقلية ولاسيما كتب الإدريسي، فإن الإمبراطور فردريك الثاني لم يبدو أقل حضًا على دراسة علوم العرب وآدابهم، وكان أبناء ابن رشد يقيمون ببلاط هذا الإمبراطور فيعلمونه تاريخ النباتات والحيوانات الطبيعي.
ويقول هومبلد في كتابه عن الكون: والعرب هم الذين أوجدوا الصيدلية الكيماوية، ومن العرب أتت الوصايا المحكمة الأولى التي انتحلتها مدرسة (ساليرم) فانتشرت في جنوب أوروبا بعد زمن، وأدّت الصيدلة ومادة الطب اللتان يقوم عليهما فن الشفاء إلى دراسة علم النبات والكيمياء في وقت واحد، ومن طريقين مختلفين، وبالعرب فتح عهد جديد لذلك العلم.
ويقول سيديو عن الرازي وابن سينا بأنهما: سيطرا بكتبهما على مدارس الغرب زمنًا طويلًا. وعُرف ابن سينا في أوروبا طبيبًا فكان له على مدارسها سلطان مطلق مدة ستة قرون تقريبًا، فتُرجم كتابه (القانون) المشتمل على خمسة أجزاء
1 / 85
فطُبع عدة مرات، لعدّه أساسًا للدراسات في جامعات فرنسا وإيطاليا.
ثالثًا- في ميدان اللغة والأدب: فقد تأثر الغربيون وخاصة شعراء الأسبان بالأدب العربي تأثرًا كبيرًا، فقد دخل أدب الفروسية والحماسة والمجاز والتخيلات الراقية البديعة إلى الآداب الغربية عن طريق الأدب العربي في الأندلس على الخصوص. يقول الكاتب الإسباني المشهور أبانيز: (إن أوروبة لم تكن تعرف الفروسية ولا تدين بآدابها المرعية ولا نخوتها الحماسية قبل وفود العرب إلى الأندلس وانتشار فرسانهم وأبطالهم في أقطار الجنوب).
1 / 86
ومن عباقرة الأدب في أوروبا في القرن الرابع عشر وما بعده من لا شك أبدًا في تأثير الآداب العربية على قصصهم وآدابهم، ففي سنة ١٣٤٩هكتب بوكاشيو حكاياته المسماة (بالصباحات العشرة) وهي تحذو حذو ألف ليلة وليلة، ومنها اقتبس شكسبير موضوع مسرحيته
1 / 87
(العبرة بالخواتيم) كما اقتبس لسنغ الألماني مسرحيته (ناتان الحكيم).
وكان شوسر إمام الشعر الحديث في اللغة الإنكليزية أكبر المقتبسين من بوكاشيو في زمانه، فقد لقيه في إيطاليا ونظم بعد ذلك قصصه المشهورة باسم (حكايات كانتربري).
أما (دانتي) فيؤكد كثير من النقاد أنه كان في (القصة الإلهية) التي يصف فيها رحلته إلى العالم الآخر متأثرًا برسالة الغفران للمعري ووصف الجنة لابن عربي.
وقد تأثرت القصة الأوروبية في نشأتها بما كان عند
1 / 88
العرب من فنون القصص في القرون الوسطى، وهي المقامات وأخبار الفروسية ومغامرات الفرسان في سبيل المجد والعشق، وكان لألف ليلة وليلة بعد ترجمتها إلى اللغات الأوروبية في القرن الثاني عشر أثر كبير جدًا في هذا المجال حتى أنها طُبعت منذ ذلك الحين حتى الآن أكثر من ثلاثمائة طبعة في جميع لغات أوروبا، حتى ليرى عدد من النقاد الأوروبيين أن رحلات (جليفر) التي ألفها (سويفت) ورحلة (روبنسون كروزو) التي ألفها (ديفوه) مدينة لألف ليلة وليلة، ولرسالة حي بن يقظان للفيلسوف العربي ابن طفيل.
ولا حاجة بنا إلى أن نذكر ما دخل اللغات الأوروبية على اختلافها من كلمات عربية في مختلف نواحي الحياة حتى أنها لتكاد تكون كما هي في اللغة العربية، كالقطن، والحرير الدمشقي، والمسك، والشراب، والجرة، والليمون، والصِّفر، وغيرها مما لا يُحصى.
1 / 89
رابعًا- في ميدان التشريع: فقد كان لاتصال الطلاب الغربيين بالمدارس الإسلامية في الأندلس وغيرها أثر كبير في نقل مجموعة من الأحكام الفقهية والتشريعية إلى لغاتهم، ولم تكن أوروبا في ذلك الحين علي نظام متقن ولا قوانين عادلة.
حتى إذا كان عهد نابليون في مصر ترجم أشهر كتب الفقه المالكي إلى اللغة الفرنسية. ومن أوائل هذه الكتب (كتاب خليل) الذي كان نواة القانون المدني الفرنسي، وقد جاء متشابها إلى حد كبير مع أحكام الفقه المالكي، يقول العلامة سيديو: (والمذهب المالكي هو الذي يستوقف نظرنا على الخصوص لما لنا من الصلات بعرب إفريقية، وعهدت الحكومة الفرنسية إلى الدكتور بيرون في أن يترجم إلى الفرنسية كتاب المختصر في الفقه للخليل بن اسحاق بن يعقوب المتوفى سنة ١٤٢٢م)
خامسًا- في مفهوم الدولة وعلاقة الشعب بالحكومة: فقد كان العالم القديم والوسيط ينكر على الشعب حقه في الإشراف على أعمال حكامه، كما
1 / 90