وفي بيت حامد رأى صابر مصدر الوجوم الحزين الذي لقيه في بيت حميه. مسكينة هند! الهلع والحيرة والخوف والأمل والاضطراب والجهد المستميت للسيطرة على نفسها، حتى تظل متماسكة لتراعي المريض وترعى شأنه. ورأى محياها يكسوه ذلك الشعور بالوحدة القاتلة. أعلم أنها لا ولد لديها ولا ابنة ، ولكن لها أبوها داود أفندي الدمراوي، ولها أمها، هيهات! الأم مهما تكن خفيفة الظل كثيرة الحديث إلا أن وجودها عند الشدائد يصبح كالعدم. والأب مشغول نهاره بالمدرسة التي يعمل بها مدرسا، وليله بتلاميذ الدروس الخصوصية الذين يصيب منهم مالا قليلا يعينه على الحياة، وعلى شراء أدوية الربو الذي أصيب به منذ سنوات.
لا عجب إذن أن تصبح هند وحيدة.
وكغريق لقف طوق النجاة! - الحمد لله أنكم جئتم، هل سيارتك معك يا صابر؟ - نعم. - هذا دواء كتبه الدكتور لحامد ولم نجد له أثرا في الصيدليات القريبة. - لحظات وأكون عندك بالدواء، كيف حاله؟ - ربنا يستر.
وراح صابر يمر بالصيدليات في إصرار وإخلاص، ولم يجد الدواء إلا بعد قرابة ساعتين. ولم يدر لماذا خامره هذا الشعور بالسعادة حين وجده، إن صلته بحامد صلة غير حميمة، وربما تكون لقاءاته بهند كثيرة حين يلقاها في بيت حميه. ولكنه كان كلما لقيها يحس أنها تحمل ألما دفينا عميقا في الأغوار البعيدة من نفسها. ترى ما سر هذا الألم؟ مسكينة هند، إنها لا تجد أحدا تفضي له بأحزانها؛ فأمها مشغولة بالحديث عن الاستماع، وأبوها مشغول بالحياة عن الحياة، والابنة تطوي نفسها على هذا الألم لا يدري مأتاه وإن كان واثقا منه.
رقيقة الملامح، هي جميلة غاية الجمال، لو أن الإشراق تلألأ في ثأمات وجهها لأصبحت قمة من الحسن لا تدنو إليها قمة. يعرفها منذ كانت طفلة، ولكنها لم تكن تزور خالتها كثيرا فهي أكبر من وداد، وكانت قليلة الزيارة بعد الزواج. وحين ماتت زوجته أصبحت رؤيته لها بالصدفة، ولكنه لسبب لا يدريه كان يشعر نحوها بنوع من العاطفة يعجز عن وصفه. ليس حبا؛ فهو لا يتصور أن يحب سيدة متزوجة، والعاطفة عنده مهما تكن جياشة إلا أنها خاضعة للعقل بالسليقة يقمعها قبل أن تشتط، ويردها دون التمادي قبل أن يصل الأمر بها إلى الثورة.
وصل صابر بالدواء، فطالعه ذلك الصراخ الذي يعلن به نساء مصر عن الموت، وسارع بالصعود ووضع الدواء الذي لم يصبح ذا فائدة على منضدة بجانب الباب، وضعه في خفية وعلى استحياء وكأنه يقوم بعمل مخجل، وذهب إلى خاله مفيد: خالي، اذهب أنت إلى البيت واترك الأمر لي.
وكأنما كان مفيد ينتظر إشارة تبعده عن هذا الكرب العظيم.
وتولى صابر الأمر وظل ملازما لهند حتى تمت كل الطقوس التي تعود الناس أن يقوموا بها بعد الوفاة.
وبعد أن مرت الأيام الثلاثة التي تتقاطر فيها السيدات إلى بيت العزاء تحرى أن ينفرد بهند: ماذا أنت صانعة؟ - لا شيء، أحسب أنني سأعود إلى بيت أبي. - طبعا، ولكنك هناك كيف ستعيشين؟ - على أبي أن يقوم بشأني. - أعلم ذاك أيضا فهذا واجبه ولكن ... - أعرف كل ما وراء لكن. - حامد لم يترك لك شيئا طبعا. - من أين؟ أنت تعلم أنه كان مدرسا في أول حياته، وكان المرتب لا يكاد يفي بمطالبنا. - اسمعي يا هند! ربما لم تتح لنا الأيام أن نلتقي كثيرا، ولكنني أعرف عنك من والدتك كل شيء، ولك أن تتأكدي أنك ستجدين في بيت أبيك كل ما تحتاجين إليه. - كيف عرفت ذاك؟ - أنت ابنة خالة وداد، وفي مكان الخالة لأولادي، وتأكدي أنني لو لم أكن واثقا مما أقوله لما قلته. - أكاد أفهم ولكن لا أريد أن أفهم؛ لأنني إذا فهمت ربما تأخذني العزة، وربما فعلت ما لا ينبغي لي أن أفعل. - إذن يحسن بك ألا تفهمي، كل ما عليك أن تطمئني.
وذهب من فوره إلى بيت داود الدمراوي، وكما توقع لم يجد الأب هناك ووجد الأم، وعاجلته رحيمة: هل سيارتك معك؟ أريد أن أذهب لهند وآتي بها. - ستذهبين وستأتين بها، فقط انتظري قليلا لنتحدث، فلي أيام لم أحدثك. - أرأيت يا صابر ما أصابنا؟ مصيبة كبيرة يا بني يا صابر؛ البنت ما زالت صغيرة، وكالقمر، تصبح أرمل وهي في هذه السن! وماذا ستفعل؟ وكيف؟ ...
Shafi da ba'a sani ba