انظر إليه كيف يشبه من يحسب أن المحسن أحسن باختياره، إنه يشبهه بالنملة ترى سواد الخط على بياض القرطاس يحصل من حركة القلم، فتضيف ذلك إلى القلم؛ إذ حدقتها الصغيرة الضعيفة لا تمتد إلى الإصبع، ومنها إلى اليد، ومنها إلى القدرة المحركة لليد، ومنها إلى الإرادة، ومنها إلى المعرفة، ومنها إلى صاحب القلم والقدرة والإرادة.
فأسلوب الغزالي في أخلاقياته يستمد قوة عرضه وقوة تأثيره من حاسة الخيال الفني، فإذا تكلم عن فضيلة من الفضائل عمد إلى ذكر ما ورد في حمدها من الآيات في اختيار بديع بارع، ثم يسرد ما جاء عنها من الأحاديث، ثم يعقب بالآثار، وينطلق بعد ذلك مؤيدا قوله بالقصص والأمثال التي تأسر قلب القارئ، وتصور في نفسه محبة تلك الفضيلة، وما لها من خطورة وجلال.
فإذا تكلم عن رذيلة، من الرذائل، طرق هذا النهج أيضا مضيفا إليه إلهاب الكرامة النفسية في القلب، وتنفير تلك الكرامة من أن تتدنس برذائل حيوانية حقيرة.
أما ميزة أخلاقيات الغزالي الكبرى فهي صلاحيتها الخالدة لكل جيل وعصر، وصلاحيتها الخالدة لكل قارئ على اختلاف الثقافات والبيئات أسلوبا ومعنى.
تربية الخلق أو العادة
وللعادات عند الغزالي تأثير كبير في تكوين الخلق، حتى إن الخلق بحكم العادة يصبح عبارة عن هيئة في النفس راسخة تصدر عنها الأفعال بسهولة، من غير حاجة إلى التفكير والروية؛ فالخلق عبارة عن هيئة النفس وصورتها الباطنة، ولهذا السبب نرى الغزالي يتشدد في الأمور الطفيفة المتعلقة بالأخلاق؛ لأنه يؤمن بأنها ستكون مقدمة لما هو أشنع، وبأنها ستصبح صورة لازمة.
وهو يقرر أن النفس إذا كانت تستلذ الباطل وتميل إليه بالعادة، فكيف لا تستلذ الحق لو ردت إليه والتزمت المواظبة عليه؟!
كما يقرر أن النفوس بفطرتها خيرة تميل إلى الخير، أما هذا الميل إلى الأمور الخسيسة فهو أمر خارج عن الطبع، يضاهي الميل إلى أكل الطين، وقد شاهد الغزالي قوما يستطيبونه بحكم تغلب العادة والاستمرار عليها.
إن النفوس خلقت بفطرتها تهوى الحكمة وحب الله ومعرفته وعبادته، وهو أمر أصيل لا دخيل؛ لأنه وحي الفطرة التي فطر الله الناس عليها، وميل غريزي كالميل إلى الطعام والكلام، وهو ضروري للقلب؛ لأنه أمر رباني.
أما الميل إلى مقتضيات الشهوة فغريب عن ذات الإنسان، وعارض على طبعه، وإنما أصبح مألوفا بالعادة السيئة، ولهذا أصبح الطفل أمانة في عنق ذويه؛ فليتقوا الله في أمانته وليحافظوا على تربيته، وليتجهوا به الوجهة الصالحة التي خلق لها، وليجنبوه مهاوي الضلال وفاسد العقائد والعادات.
Shafi da ba'a sani ba