ثانيا: إذا كانت تمد سلاسل سطوتها إلى أعماق القلوب فلا يكون ذلك إلا لإيقاع التهديد والخوف على السرائر والضمائر الشريرة لا للاستيلاء عليها، فلو لم تكشف هذه المملكة حجاب غفلات البشر عن المستقبل وتظهر لهم ما يكمن فيه من المخاوف المستعدة لابتلاعهم، من كان يمكنه ردع الفقير عن الغني؟ من كان يستطيع رد جماح المغتال؟ من كان يحسن تقييد رجل السارق؟ من كان يقدر على قمع ثوران الزاني؟ من كان يمكنه قطع لسان شاهد الزور؟ وبالإجمال من كان يمسك العالم البشري عن تمزيق بعضه البعض ويحفظ نظامه من الانتثار؟
ثالثا: إن الإنسان لانطباعه على السوء ينسب جميع المعاصي والقبائح لمن ينهى عنها ويوبخ مرتكبيها؛ وبناء على ذلك قد توهم البعض من الأشرار كون جولان خدام مملكة الروح في الأقطار المسكونة هو لأجل غرس الخصومات والقلاقل بين الناس، مع أن الأمر بالعكس؛ أي إنهم يتهمون دائما بنشر الاتفاق والسكينة في العالم، ولو اضطرتهم الحال أحيانا إلى ترك السلم وإشعال نيران الحروب يجب أن لا تقتصروا على أن تتركوا هذه المملكة وشأنها، بل ينبغي أن تكون مملكتكم موجهة كل قوتها إلى مساعدة مسراها وانتشارها.
على أنه إذا كانت دولتكم قائمة بالأبدان فتلك ثابتة بالأرواح. ومن المستحيل قيام البدن بدون الروح؛ فمن الجهالة تغافل ذاك عن هذه. وإذا خامر أفكاركم الميل إلى محاربتها، فلا يخطر لكم إمكان الانتصار عليها، بل يجب أن تعلموا أنكم سترجعون القهقرى ناكصين على أعقاب الندم؛ لأن يد القدرة ممتدة دائما إلى مساعدتها وإغاثتها، حتى لا يمكن لنفس أبواب سقر أن تقوى عليها. وطالما اجتهدت ملوك قبلكم بدثارها وإسقاطها ولم ينجح لهم اجتهاد، وبمقدار ما كانت الاضطهادات ثائرة عليها كانت هي تزداد قوة وامتدادا إلى أن استغرقت في حضنها العالم وأخضعت كل ملوك الأرض تحت موطئ قدميها. وما ذاك إلا لكون العناية العلوية قد سلمتها زمام السياسة ورافقتها في كل المسالك، ولن تزال هكذا تنمو وتكثر وتشحن الأرض إلى أن تتم المشيئة.
فبعد أن استوفى الملك كلام الفيلسوف ووجده في غاية الصواب، أيقن ببطلان فكره وخطأ اعتماده، وعلم أن ما كان يبلغه البعض من أهالي مملكته ضد مملكة الروح هو ناشئ عن روح التغرض والتعرض. وهكذا عزم على تقديم الإعانة والإغاثة بدل المضاربة والمحاربة، وبعد فترة من الصمت التفت إلى ملكة الحكمة، وقال: إن جميع كلام هذا الرجل صواب، وليس فيه أدنى ارتياب. وكل ما كنا نسمعه كان باطلا ولا حقيقة له، وإذا افترضنا عدم صحته وأشهرنا الحرب، فلا نرجع إلا خائبين، وربما نقع في خطر اضمحلال كل مملكتنا وسياستنا؛ لأن ما يساعده الروح لا يغلبه الجسد.
فأجابت الملكة بتواضع: لا شك فيما تكلم الفيلسوف، ولا ريب أن الاعتماد كان باطلا؛ لأن السياسة العلوية منتصرة دائما على السفلية، وما يكون هابطا من الأعالي يسطو مطلقا على ما ينهض من الأسفل، وما تفعله الصدف لا يغلب مفاعيل القصد. - لعل سياستنا ودولتنا وجدتا على سبيل الصدفة والاتفاق. - إذا تتبعنا شجرة امتداد السياسة والتملك في العالم من حيث الأصل، إنما نراها باسقة من جرثومة المصادفات والتقادير.
فالتفت الملك إلى الفيلسوف، وقال له: ماذا تقول أنت؟
فأطرق الفيلسوف قليلا ثم أجاب: لا شك فيما قالته حضرة ملكة الحكمة. - هات فصل لنا ذلك. - إن تفصيل هذا الأمر يعسر جدا، ولا يوجد نور واضح نستهدي به إلى الحقيقة، وإنما يمكنني أن أورد على ذلك ما أتناوله من الاستقراء والاستنتاج التاريخي. - لا بأس، خذ راحة الجلوس، وقل ما يخطر لك.
فامتثل الفيلسوف الأمر وجلس، وبعد إطراق قليل رفع رأسه، وجعل يقول ...
الفصل الرابع
السياسة والمملكة
Shafi da ba'a sani ba