وبينما كان أنطوني أسيرا لغرامه بالإسكندرية كانت المسائل تتعقد بروما؛ إذ عاد أوكتافيوس إلى نشاطه، وأخذ أمراء سوريا يثورون ضد الحكم الروماني. وفي شهر فبراير سنة 40ق.م. اضطر أنطوني إلى مغادرة معبودته، ففارقها متحسرا في شهر مارس، وتركها مثقلة بالأحزان، حبلى في توءمين تلدهما في فصل الخريف المقبل، ومرت عليها أربعة أعوام قبل أن تراه ثانية.
بين اليأس والأمل
قضت كليوباترا ثلاثة أعوام بعد أن فارقها أنطوني ولا شاغل لها إلا تثبيت حكمها لمصر، ولم تغفل طول هذه المدة أن تراقب جيدا ما يجري بالإمبراطورية بالرومانية، حيث كان أوكتافيوس في نزاع مع أنطوني، ولم تنس أبدا طول هذه المدة أهمية مركز ابنها من يوليوس في هذا النزاع.
وكانت لدى أنطوني مئات المشاغل التي تجعله ينسى كليوباترا ولو مؤقتا؛ إذ كانت الثورة بسوريا نجحت إلى حد ما، وكان أوكتافيوس قد ثبت قدمه بإيطاليا منتهزا فرصة غياب أنطوني بالإسكندرية. وكان أسوأ ما يواجهه أنطوني بعد غضب زوجته فولفيا التي بلغها ما اقترن باسم زوجها واسم كليوباترا من حديث الحب والغرام.
وحدث إذ ذاك أن توفيت فولفيا زوجة أنطوني، وربما كان سبب وفاتها هو ما انتاب قلبها من آلام، ولكن أنطوني استراح من شر غيرتها، ثم تزوج عقب ذلك أوكتافيا، وهي شقيقة عدوه أوكتافيوس؛ وبذلك تمكن من الوصول إلى اتفاق ودي مع أوكتافيوس مؤداه: أن يحكم أنطوني النصف الشرقي من الإمبراطورية الرومانية، في حين يحكم أوكتافيوس النصف الغربي. وولدت لأنطوني من زوجته أوكتافيا بنت صغيرة، هي التي أصبحت فيما بعد جدة الإمبراطور الظالم نيرون.
سمعت كليوباترا طبعا بكل ما حدث في روما، فانتابها ما ينتاب كل امرأة أخرى في موقفها من غيرة وغضب ويأس، بل يمكن أن نتمثلها هنا بامرأة أحبت جزيل الحب، ثم ما لبثت أن تبينت، كما تبينت كثيرات غيرها من قبل ومن بعد، أنها نبذت كامرأة، وخدعت كملكة وسياسية، علاوة على أنها كانت تعلم جيدا أن زوجة أنطوني الجديدة، أوكتافيا، صغيرة السن، بديعة الجمال.
ولو كانت كليوباترا امرأة عادية لانتهى كل شيء في سهولة، ولنسي أنطوني ذكرى خليلته القديمة، ولكن كليوباترا لم تكن امرأة عادية - وإذا كان قد فكر في أن ينبذها فقد كان مخطئا في فهم قوتها وتأثيرها - ولم تكن كليوباترا سليلة البطالسة لتتنازل بهذه السهولة عن أطماعها وبلادها وغرامها.
كان على أنطوني أن يخضع سوريا، وكان يعلم أن الأسطول المصري خير من يساعده في إدراك هذا الغرض؛ ولهذا اضطر أن يستدعي كليوباترا إلى مقابلته ثانية، وكان يريد أن تكون هذه المقابلة مقابلة سياسية محضة، كأنه يعتقد أن كليوباترا قد نسيت الماضي بصفحته العاطفية.
وتمت المقابلة بينهما في مدينة أنطاكية بسوريا، ولكنها لم تذهب إليه في تلك المرة كما ذهبت إليه وهو في طرسيس تحوطها مظاهر البذخ والعظمة؛ إذ إن الأعوام التي مرت عليها جعلتها أرجح عقلا مما كانت، وزادتها معرفة بالرجل. قابلته هذه المرة مقابلة امرأة جرحت كرامتها فاشتد غضبها، وأخذ هو يعتذر إليها بأن المصالح السياسية هي التي أملت عليه تصرفاته، وكانت النتيجة النهائية أن حصلت منه على كل ما تريد، وأغرته على أن يستأنف الحياة إلى جانبها، فعاشا معا شتاء بأكمله، وفي فصل الربيع بدأ أنطوني حملته السورية، وفي الخريف وضعت كليوباترا ولدا.
المحاولة الأخيرة
Shafi da ba'a sani ba