ترجمة عن الأصل الإنكليزي
فذلكة
كلمة من المؤلف
إهداء الكتاب
فائدة من خبير لا يقرؤها إلا المصري
برهاني على صدق ما أقول
خاتمة
ملحق حاوي خير
ترجمة عن الأصل الإنكليزي
فذلكة
Shafi da ba'a sani ba
كلمة من المؤلف
إهداء الكتاب
فائدة من خبير لا يقرؤها إلا المصري
برهاني على صدق ما أقول
خاتمة
ملحق حاوي خير
غرائب المكتوبجي
غرائب المكتوبجي
تأليف
سليم سركيس
Shafi da ba'a sani ba
ترجمة عن الأصل الإنكليزي
من مدير المشير المسئول إلى محرره
صديقي العزيز
بينما كنت تشرح لي أكثر الأحيان ظلم حكومتك وضغط المكتوبجي عليك وعلى رصفائك من محرري الجرائد العثمانية، كنت تدهشني بأخبارك حتى بلغ من دهشتي أن اقترحت عليك وضع هذا الكتاب، ليطلع على محتوياته أبناء مصر وسكانها، وليقدروا نعمة الحرية التي هم فيها الآن، كما سيطلع عليه أبناء وطني بلغتنا الإنكليزية. أما وقد مثلت الكتاب بالطبع فإنني أصادق على تأليفه وطبعه وأفوض إليك نشره تحت اسمي ومسئوليتي، وأحفظ لنفسي ولجريدتنا المشير حق طبع هذا الكتاب وترجمته، وأخطر الذين يحاولون اختلاسه إلى اللغة العربية أو إلى سائر اللغات أنهم تحت المسئولية إذا فعلوا، واقبل تأكيدات دعائي بالنجاح لمشروعنا العائد بالنفع إن شاء الله.
مدير المشير الإنكليزي
مصر، في 26 أفريل سنة 1896
فذلكة
حتى متى لا نرى عدلا نسر به
ولا نرى لولاة الحق أعوانا
مستمسكين بحق قائمين به
Shafi da ba'a sani ba
إذا تلون أهل الجور ألوانا
يا للرجال لداء لا دواء له
وقائد ذي عمى يقتاد عميانا
كلمة من المؤلف
ولم أر كامرئ يرنو لضيم
له في الأرض سير والتواء
وما بعض الإقامة في ديار
يهان بها الفتى إلا عناء
قضي علي أن أولد في المملكة العثمانية من والدين عثمانيين لحكمة لست أدرك غايتها، كما قضي على سائر العثمانيين أن يصيروا إلى حالة سقوطهم الحاضرة؛ فلا هم في مقدمات الأمم المتمدنة، ولا هم في أخرياتها.
يعجزون بعجز حكومتهم وظلمها عن إدراك شأو سواهم، ثم لا يمكن أن يقال عنهم إنهم في حالة الخمول؛ لأنهم مع كل التضييق الحاصل لهم قد تقدموا خطوة مهمة في العلم والمدنية.
Shafi da ba'a sani ba
أما أنا فتوالت علي النكبات؛ فأول مصيبة أصبت بها أنني ولدت في بيروت، فصرت بحق مولدي - وليس بإرادتي - من رعايا الحكومة العثمانية، وهذه أنكى المصائب وأولاها.
والنكبة الثانية أن أهلي أرسلوني إلى المدارس حيث تلقيت شيئا من العلم، فأصبحت في علمي أستحق أن يشفق علي الجاهل، وصرت أتمثل بقول الشاعر:
من لي بعيش الأغبياء فإنه
لا عيش إلا عيش من لم يعلم
والنكبة الثالثة أنني تعلمت اللغة الإنكليزية بنوع خاص، فأصبحت لا أقوى على احتمال الخمول وأنا أقرأ جرائد أوروبا ومؤلفاتها وأغذي عقلي بمبادئ التقدم والحرية، وهكذا تولدت في الأميال إلى نصرة الحق والرغبة في مقاومة الظلم ولو كان في ذلك هدر دمي.
والنكبة الرابعة أنني بعد خروجي من المدرسة عهد إلي بتحرير جريدة «لسان الحال»، فلبثت في ذلك العمل مدة 8 سنوات. وأمسكت زمام الرأي العام كل تلك المدة، إلا أنني لم أقدر أن أستعمل حريتي في إدارته، فكنت كمن وضعت أمامه الحلوى وهو مغرم بأكلها ثم منعته عن أن يمسها بيده، وأدركت من مطالعة الصحف الأوروبية منزلة الحرية ومقام الإخباري، ولكنني لم أقدر أن أستعمل شيئا من ذلك، فكنت على حد قول الشاعر:
ألقاه في اليم مكتوفا وقال له
إياك إياك أن تبتل بالماء
والنكبة الخامسة أنني رحلت إلى أوروبا فزرت إيطاليا وفرنسا، وأقمت في إنكلترا نحو عامين أقرأ جرائدها وأجتمع على رجال الصحافة وأرباب السياسة فيها، وأحضر جلسات البرلمان ومجتمعات الأدباء وأسمع خطب الخطباء، فقويت في أميالي إلى الحرية وزدت تقديرا لمقام هذه الإلهة العصرية.
والنكبة السادسة والأخيرة أنني اضطررت - حفظا لمصالح سواي - أن أهجر بلاد الحرية وأعود إلى بيروت، فعدت إلى تحرير «لسان الحال» تحت ضغط المكتوبجي وظلم الحكومة بعد أن ذقت حلاوة الحرية.
Shafi da ba'a sani ba
وسبب جميع هذه المصائب والنكبات هو وجود المراقبة على جرائد تركيا عموما وجرائد سوريا خصوصا؛ لأن الحكومة العثمانية اختارت وضع مراقبة صارمة على الجرائد فقيدت العقول، وأرادت من ذلك أن تقتل الأفهام كما تقتل الأجسام في هذه الأيام، مما سيرد تفصيله في هذا الكتاب؛ ليعلم القراء إلى أية حالة وصلت حرية الأقلام في بلاد الدولة العثمانية، ويقيسوا التأخر في هذا الباب على غيره من سائر أسباب التمدن والترقي.
وقد أجبت اليوم اقتراح عدد من الأدباء الذين سألوني وضع كتاب في أخبار المكتوبجي علما بأنني جهينة أخباره؛ لأنني احتملت مظالمه عدة سنوات، وعند جهينة الخير اليقين.
سليم سركيس
مصر القاهرة، في 25 أفريل سنة 1896
إهداء الكتاب
إلى جلالة السلطان عبد الحميد الأعظم
مولاي
يسوءني أنني من جملة رعاياك؛ لأنه يسوءني أن أكون عبدا، وأنت عودتنا أنك تعتبر الرعية في منزلة عبيد لك بدلا من أن تتبع الحقيقة، وهي أن تكون عبدا لنا، ولما كنت لا أستطيع التخلص من هذه التابعية، فعلى الأقل أحاول أن أعلن للناس أنني عبدك رغما عني، وهذا كل ما أستطيع أن أفعله الآن.
لكن كما أن الدول المتمدنة قد ألغت الاسترقاق والنخاسة وأعطت العبيد السود حريتهم، كذلك قدر الله العلي الحكيم أن أخرج من مملكتك وأن أقيم في حمى حكومة مصر العادلة، فمن هذا القطر الذي أصبح سعيدا من يوم تقلص ظل نفوذك عليه أعرض لمسامعك الشاهانية ما أشكوه أنا ويشكوه سائر رصفائي في تركيا من السياسة الخرقاء التي تبعتها جلالتك، وأصرح لك - غير خائف ولا وجل - بأنك في سياستك هذه تسوق بلادك ورعيتك إلى خراب عاجل وسقوط سريع.
إن ترقيك يا مولاي إلى عرش أجدادك قد أوجد عدة ضربات أصيبت بها الدولة العثمانية، ومن جملة تلك الضربات قتل العقول، الأمر الذي تفردت فيه عن سواك من السلاطين.
Shafi da ba'a sani ba
أنت تدري يا مولاي مقدار خوفك على حياتك؛ حتى أنك حصنت قصرك وجمعت من حولك الرجال بالسلاح، كل ذلك حرصا على حياتك، وأنت فرد من الناس فكم بالحري يليق بنا، نحن الأمة بأسرها، أن نحرص أيضا على عقولنا وأن ندافع عنها، وهي أشرف ما وهبه لنا الله تعالى.
فإن كنا لا نقوى الآن على مقاومتك بالقوة، فإننا نحاول مقاومتك بالبرهان، فإن لم تصغ اليوم لأصوات عقولنا، اضطرك الإهمال يوما ما إلى الإصغاء لصوت جهوري هو صوت الشعب، والعياذ بالله من الشعب إذا اتحد واتفق وأراد أن يدرك غاية شريفة معلومة فيها خيره، فإن السلاطين لا تكون أمام ذلك البحر الزاخر والتيار القوي إلا:
كريشة في مهب الريح خافقة
لا يستقر لها حال من القلق
فأشفق يا مولاي على نفسك من ذلك اليوم الرهيب.
وإني أدون في هذا الكتاب بعض المساوئ الحاصلة وأرفعها هدية إلى معاليك، لعل وصف أعمالك الظالمة وعمالك الأدنياء يؤثر عليك، إذن تتمثل لعينيك في كتاب على حدة سينتشر بين الناس في عدة لغات فاقبله غير مأمور، والأمر والفرمان لولي النعم.
المؤلف
فائدة من خبير لا يقرؤها إلا المصري
ربما يظن بعض إخواني من أهالي مصر أن في ما سأورده في هذا الكتاب بعض مبالغة؛ ولذلك فإنني أنشر هنا رسالة وردت إلي من حضرة الكاتب الفاضل كليانتس أفندي فيلبيذس الخبير بأحوال الآستانة، ومعلوم أن حضرته رافق سمو الخديوي في زيارته الأولى إلى الآستانة، فأخباره تؤخذ عن ثقة إن شاء الله، قال:
صديقي محرر المشير الفاضل
Shafi da ba'a sani ba
اطلعت على ما نشرتموه في جريدتكم الزاهرة عدد 79 بتاريخ 18 أفريل سنة 96 من أنكم قد عقدتم النية على طبع كتاب يتضمن أخبار ضغط الحكومة التركية على جرائدها وسائر مطبوعاتها، مخصصين في ذلك أعمال مكتوبجي ولاية بيروت، فرأيت من المستطاب أن أبعث إليكم بنبذة تقوم مقام مقدمة لهذا التأليف الجديد عن مراقبة المطبوعات عموما والجرائد خصوصا في قاعدة السلطنة التركية، رجاء أن تأتي فذلكتي هذه ببعض الفائدة لكثيرين من المصريين خصوصا وغيرهم من العرب عموما، الذين ما زالوا للآن يعتقدون خلاف الواقع ويكابرون في الضلالة عن تعصب أعمى وجهل أظلم من الليل الحالك، فلا يصدقون الحقائق عما هو جار للآن من المظالم وشدة النير الضاغط على رقاب الرعية عموما والكتيبة الأحرار خصوصا في أيام الحكومة الحاضرة، وهم لا يخدعون إلا أنفسهم.
لما زار حضرة صاحب السمو خديوي مصر عباس الثاني المرة الأولى القسطنطينية سنة 1893 وصل إليها نحو الساعة الحادية عشرة صباحا من نهار الاثنين، فأعلنت الجرائد الغير التركية التي تصدر بين الساعة الثالثة والرابعة بعد الظهر وصول سموه إلى عاصمة بلاد الترك، ومن هذه الجرائد المهمة جريدة اللوانت هرالد وهي إنكليزية النزعة، والثانية الأوريانتال أدڨرتيزر أو المونيتور أوريانتال وسياستها روسية، فنشرت هذه الأخيرة جملة افتتاحية من ألطف ما يكتب لترحب بالضيف العظيم، وأثنت فيها ثناء جميلا يستطاب عند أهل الذوق السليم، مبتدئة من رأس العائلة المغفور له محمد علي باشا ذاكرة - إجمالا - أعماله العظيمة وأعمال أنجاله وأحفاده الذين تولوا من بعده الأريكة المصرية، منتهية بما كان معروفا عن أميال وعواطف وذكاء الأمير المالك حالا. وكان لهذه الجملة التي نشرتها المونيتور أوريانتال رنة في أفئدة كل الذين طالعوها يومئذ من الأتراك أصحاب الذوق السليم، وخصوصا الأحرار، وكذلك عند الإفرنج الكثيرين واليونان الذين لا يقل عددهم إلا قليلا عن عدد الأتراك في تلك العاصمة. ومعلوم أنه لا يمكن طبع شيء أو نشره هناك قبل أن يمر أولا على أعين أقلام المراقبة. وكان في رئاسة مراقبة المطبوعات الإفرنجية إذ ذاك عطوفتلو ماجد باشا، وهو حفيد المرحوم فؤاد باشا السياسي الشهير، فقرأ الجملة التي نحن في صددها قبل الطبع، ولم يخطر على باله أن نشر بعض سطور فيها ترحب وثناء على حضرة صاحب السمو أمير مصر وآبائه وأجداده الكرام، يحرك غيظ السلطان ويستوجب غضبه، فلم يمنع نشرها. وهكذا صدرت الجريدة الساعة الثالثة بعد الظهر مصدرة بكلام أحلى من الشهد لكل محب لمصر ولسمو خديويها وللعائلة المحمدية العلوية، وتناقلتها ألسن أهل الآستانة وتاقت نفوسهم إلى مشاهدة الخديوي الشاب على أثر ما طالعوه عن عزة نفسه وعواطفه الشريفة واستعداداته العظيمة. وأما السلطان فساءه جدا ولم تأت الساعة الخامسة حتى أصدر إرادته بعزل ماجد باشا المشار إليه، فكدر ذلك العدد العديد من سكان الآستانة الذين عرفوا حضرته وما هو عليه من اللطف والإنسانية مع شرف الأصل، ولكن لم يعرف إلا الأفراد أسباب عزله، وقد كتم ذلك عن السواد الأعظم من كبار الناس. انتهى.
حلوان، في مارس سنة 96 (1) ما هو المكتوبجي
إن مكتوبجي ولاية بيروت اليوم هو سعادتلو عبد الله أفندي نجيب، ولكنه ليس وحده المقصود في هذا الكتاب، وإنما استعملت اسم المكتوبجي لأنه أصبح من الأوضاع العصرية لمراقب الجرائد، مع أن المكتوبجي - في حقيقة معناه وطبيعته الأصلية - لا علاقة له بالجرائد وإنما هو سكرتير الوالي. ولكل ولاية من الممالك العثمانية مكتوبجي خاص، لكن الحكومة العثمانية اختارت أن تعهد إلى مكتوبجي ولاية بيروت أمر مراقبة الجرائد، فأصبح اسم الرجل معروفا بمراقبته للجرائد أكثر من كونه كاتم أسرار الولاية. (2) حرية الجرائد (وكيف بدأت المراقبة)
كانت سوريا أقدم مكان ظهرت فيه الجرائد السياسية والعلمية في المملكة العثمانية، ولا تزال حتى الآن كثيرة فيها، تزيد على أمثالها من الولايات بكثير من الجرائد. وقد كانت الحرية مطلقة لجرائد بيروت من أول نشأتها، لا مراقبة عليها ولا سيطرة، يلجأ إليها المظلوم ويخافها الظالم؛ حتى لقد بلغ من «الجنة»، و«الجنان» للمرحوم المعلم بطرس البستاني ومن «لسان الحال» في أوائل نشأته أنها كانت تكتب بحرية لا تقل عن الحرية التي نتمتع بها الآن في مصر. وكانت مصر تلجأ إلى سوريا وتنشر على صفحات جرائدها شكوى أهاليها، كما يتضح للقاري من مراجعة ما كتبه المرحوم أديب إسحاق في جريدته الباريزية؛ إذ نقل عن «المصباح» الذي يصدر في بيروت رسالة ملؤها حرية، ودامت جرائد سوريا على هذه الحالة من الراحة والهناء والتمتع بأحسن مزايا الإخباري إلى أن رأت الحكومة العثمانية ضعفها هي وتقدم الشعب السوري وكثرة جرائده وميله إلى المطالبة بحقوقه على صفحاتها. ومعلوم أن للحكومة العثمانية قوانين معلومة منشورة في الدستور الهمايوني، وفي جملتها قانون المطبوعات الذي يجب أن تجري عليه الجرائد، وفيه تحديد الحرية المعتدلة التي هي ملاك السعادة، والعقاب الذي ينال من يخالف ذلك القانون، شأن سائر الحكومات المتمدنة. وكانت الجرائد خاضعة لذلك القانون، تبدي أفكارها بحرية تامة متجنبة كل ما يكدر الحكومة، حتى إذا كان عام 1877 جعل سعادتلو خليل أفندي الخوري صاحب جريدة «حديقة الأخبار» مديرا لمطبوعات سوريا، فإذا نشرت إحدى الجرائد ما تظن الحكومة أنه غير مناسب أرسل المدير تذكرة تسمى إخطارا وهذا نصها:
إلى صاحب امتياز الجريدة الفلانية
من حيث إن جريدتكم قد نشرت في عدد كذا مقالة مخالفة للرضى العالي، فقد أوجبت (تخديش الأذهان)، فاقتضى إخطاركم أنكم إذا عدتم إلى مثل ذلك تجري بحقكم المعاملات القانونية.
وكانت المعاملة في ذلك الحين أن الجريدة التي تخطر ثلاثا على هذه الكيفية يصدر الأمر بتعطيلها لمدة معينة، ثم في سنة 1885 توفي والي بيروت في ذلك الحين، وبعد أيام وردت الأخبار التلغرافية أن قد عين دولتلو رائف باشا وزير النافعة واليا على بيروت، وكنت إذ ذاك أحرر جريدة «لسان الحال»، وكنا نعلم أن رائف باشا المشار إليه من أعظم رجال الدولة العثمانية استقامة، فعزمت الإدارة على الاحتفال باستقباله احتفالا خصوصيا، وهيأت لذلك الغرض مقالة لم ينسج على منوالها من قبل وتقرر نشرها يوم وصول دولة الوالي، واستعملت إدارة «لسان الحال» الحرية التامة المعتدلة في بيان المساوئ الحاصلة في حكومة سوريا، وإذا توفقت للحصول على نسخة تلك المقالة أنشرها في مكان آخر، وفي الوقت الذي كنا ننتظر فيه قدوم رائف باشا - وقد وصلت عائلته إلى بيروت - صدرت إرادة سنية تلغي ذلك التعيين، وعهدت بالولاية إلى رءوف باشا متصرف القدس الشريف، أما «لسان الحال» فأبقى مقالته الأولى على حالها ونشرها يوم وصول الوالي، فاهتزت لها المدينة وسائر الجهات التي وصلت إليها، ولم تمض بضعة أيام حتى أقامت محكمة استئناف بيروت الدعوى على «لسان الحال»، فحكمت المحكمة الابتدائية ببراءته، وقد حضر الجلسة ألوف من الناس وصفقوا ودعوا بالنصر للسلطان عند صدور البراءة، ولم تمض 3 أيام على هذا الحكم العادل حتى ورد تلغراف من الآستانة يقضي بتعطيل «لسان الحال» إلى مدة غير معلومة، وبعد مضي ستة أشهر عفي عن الجريدة، وفي ذات يوم استدعي جميع أصحاب الجرائد إلى سراي الحكومة، في غرفة عزتلو ميشال أفندي إده ترجمان الولاية، فأنبأنا إذ ذاك أن الحكومة قد قررت ألا تصدر نسخة من جرائد بيروت إلا بعد أن ترسل مسودتها قبل الطبع إلى ميشال أفندي لمراقبتها.
وهكذا بدأت المراقبة التي نحن بصددها، وقد كانت في أول الأمر مراقبة خفيفة ليس فيها شيء من العنف، حتى إذا ضجر ميشال أفندي من مطالعة الجرائد وخشي المسئولية انتقلت السيطرة إلى مكتوبجي الولاية، وكان يومئذ المسمى جمال بك. وهو تركي لا يعرف كلمة من اللغة العربية، ثم فصل وخلفه جابي زاده سعادتلو حسن فائز أفندي من أهالي دمشق ومن أخصاء مدحت باشا، فشدد على الجرائد حتى كادت تزهق أرواحها، ثم آل الأمر إلى أن تعين سعادتلو عبد الله أفندي نجيب المكتوبجي الحالي، وهو الذي سأورد من أعماله الغرائب والعجائب. (3) ذهابي إلى إنكلترا
لما يئست من تحسين الأحوال في بيروت ولم أستطع احتمال ضغط المكتوبجي حسن فائز أفندي، تركت تحرير «لسان الحال» وقصدت إنكلترا حيث أقمت نحو سنتين، ومن هناك كتبت إلى المكتوبجي أخبره بوصولي وأسأله الرفق برسائلي التي كنت أكتبها من هناك إلى «لسان الحال» فكتب إلي الجواب الآتي:
Shafi da ba'a sani ba
حضرة الأديب الكامل
وصلني كتابك المبشر ببلوغك المحل المقصود سالما فسررت لذلك وشكرت حسن ودادك، أما رسائلكم ل «السان» فهي عميمة الفائدة ولا تحتاج حذف شيء إذا حررت عند سكون البحر الذي هاج فرحا لاستقبالكم، أتمنى لك النجاح والتوفيق مؤكدا مودتي وإخلاصي للسليم.
حسن فائز
2 ك 1 سنة 1308
وكنت قبل مزايلتي بيروت أذهب في أكثر الليالي لزيارة المكتوبجي في بيته، فذكرت له يوما ما أنني إذا تمكنت من مزايلة بيروت والوصول إلى بلاد حرية يكون أول همي نشر جريدة حرة، قال: إننا نمنعها عن الدخول ونستعمل كل واسطة لمنعك عن كتابتها، ولما فارقت بيروت فجأة كتبت جريدة المصباح أنني ذهبت إلى لندن لإنشاء جريدة عربية هناك، الأمر الذي لم يكن يومئذ في خاطري، وأول ما رأيته في جريدة المصباح التي وصلتني وأنا في لندن فلم أهتم بتكذيب الخبر؛ لأنني لم أعلم أن تلك الإشاعة تكون سببا لاهتزاز رجال الدولة من أكبرهم إلى أصغرهم، أما أنا فلما وصلت إلى ميناء تلبوري أخذت دليل لندن وعلمت منه عنوان قنصلية الدولة العثمانية، فكتبت رسالة باللغة العربية إلى حضرة القنصل الجنرال أخبره فيها عن وصولي إلى إنكلترا، وأنني بصفة كوني من رعايا الدولة أحب أن أجري ما يقتضيه الواجب؛ لتعرف قنصلية دولتي وتعطيني الحماية اللازمة، فورد إلي في صباح اليوم التالي رسالة لطيفة من القنصلية مكتوبة باللغة العربية وأمضاها «أمين»، فلم أعرف من هو أمين هذا، وحسبت أنه من رجال الأتراك الذين يكتفون بتوقيع اسمهم الأول كأن السماوات والأرض تعرف من هم، ومضت على ذلك مدة طويلة ذهبت في غضونها إلى لندن ثم زرت نحو ثلاثين مدينة في إنكلترا، وكنت أتردد على لندن كل أسبوع. ولم أتمكن من زيارة القنصل ولم أر ما يستوجب زيارته بدون شغل خاص لعلمي أن المشغول لا يشغل، وبعد أن مضى علي نحو سنة في إنكلترا كنت ذات يوم في لندن أسير من جهة «كانون ستريت» فذكرت أنني على مقربة من القنصلية وقلت لا بأس أن أزور القنصل وأتعرف عليه، ولا شيء يشغلني الآن، فصعدت سلما ودخلت إلى باب عليه اسم القنصلية، فطرقت الباب ودخلت إلى غرفة واسعة ليس فيها إلا طاولة صغيرة جلس إليها شاب لطيف، ورأيت أمامي بابا يؤدي إلى غرفة داخلية وقد وقف فيه رجل لا أعرفه، فتقدم إلي الشاب وقال: ماذا تريد؟ قلت: أن أرى حضرة القنصل، وأعطيته تذكرة زيارتي، فأخذها وقدمها للرجل الواقف في باب الغرفة الثانية، فأخذها هذا ونظر فيها بإمعان مدة دقيقة، ثم صعد الدم إلى وجهه وقدحت عينه النار وأخذ يرتجف، ثم رمى بالتذكرة إلى الأرض مغضبا وقال باللغة العربية العامية: «فوت.» أي ادخل.
قلت: ومن أنت؟ قال بغضب أعظم: «أنا القنصل.» قلت: أظنني مخطئا، فقنصل دولتي لا يعاملني هذه المعاملة. فاندفع بالشتيمة والتهديد وصاح بي قائلا: «إنكم تخرجون من بلادكم ولا تذكرون أن لكم دولة أو حكومة، وأنت قد أقلقت رأسي وأتعبتني كثيرا وصيرتني في مركز حرج أخاف منه على منصبي، فكأنك تريد مزاحمتي على المنصب»، إلى غير ذلك من الكلام المهين، وأنا لا أفهم معناه، بل أنتظر ريثما ينتهي من الشتيمة فأخرج، وإذا بعزتلو يوسف أفندي إلياس، مهندس لبنان سابقا وصاحب امتياز سكة حديد حيفا، قد دخل فسلم علي وصافحني وانعطف علي بمزيد الشوق والتودد، ثم قال: ادخل لنجلس مع أمين أفندي برهة (يريد القنصل.) قلت: لست بفاعل؛ فإن الرجل أهانني كثيرا وأنا غير محتاج إليه، ولا زيارته واجبة علي، قال القنصل بلطف: «تفضل يا سيدي» على أثر ما رأى من إكرام صديقه يوسف أفندي لي، قلت: الآن أدخل؛ إذ لي معك كلام، لكنني لا أفعل حتى ترفع تذكرتي عن الأرض؛ إذ لا آمن أن تحصل لي الإهانة نفسها. ففعل ودخلت، فلما جلست قلت: ماذا أصابك يا هذا حتى عاملتني هذه المعاملة، وأية علاقة لي معك وبأشغالك ومركزك، مع أنك لا تعرفني ولا أعرفك؟ قال: أنت لا تعلم السبب، فمنذ زايلت بيروت ما برحت ترد إلي الأوامر من الآستانة بالتفتيش عليك ومراقبتك، وأنا لا أعرف مكانك، والأوامر من هناك ترد بتشديد ولا سبيل إلى إدراكك، قلت: إنما كان ذلك لأنني كنت أتجول في المملكة منزها الطرف في محاسنها، لكن ما الذي ألجأ الآستانة إلى هذا؟ قال: اسمع. وأخرج عدة كتب بعضها من وزارة الداخلية وغيرها من غيرها وبعضها من حسن فائز أفندي مكتوبجي ولاية بيروت، مآلها أن سليم أفندي سركيس من نبهاء بيروت وأحد كتابها البارعين سافر إلى لندن، والشائع أنه ينوي إصدار جريدة عربية في لندن. ولما كان لم يعرض ذلك على الباب العالي. ولما كان مثل هذه المشروعات الكتابية مضرا بصوالح السلطنة، اقتضى إصدار الأمر إليكم مشددا بوجوب مراقبة حركات سليم المذكور وسكناته، ورفع التقارير المتواصلة عن الخطب التي يلقيها والجمعيات التي يتردد عليها والجرائد التي يكتب فيها، وترسل تلك المقالات إلى الباب العالي ... إلى آخره فأضحكني اهتمام الدولة بهذه الأمور وقلت للقنصل: ماذا تريد مني الآن؟ قال: تذهب معي إلى رستم باشا السفير، قلت: لا أفعل، قال: إذن لا تخرج من هنا إلا معي إلى السفارة. قلت: أنت ترتكب أعظم خطأ؛ فلا سلطة لك علي، وكلمة واحدة ألفظها من هذه النافذة تجعلك تحت سلطة أول بوليس إنكليزي، أنسيت أننا في لندن أم الحرية؟ قال: لماذا لا تذهب لزيارة السفير؟ قلت: يظهر لي من معاملتك أن الدولة ملأت دماغك بالخوف مني، فإذا كانت هذه معاملتك لي فكيف تكون معاملة السفير! وأنا لا أحب أن أقابل دولته لئلا تحصل لي الإهانة التي حصلت هنا. وفضلا عن ذلك فإن الباب العالي إنما أمرك أن ترسل إليه التقارير عن تصرفاتي لا أن تقبض علي. قال: ومن لي بتلك التقارير؟ قلت: اسمح لي بساعة أعود بعدها بمادة كافية لتقريرك، قال: إنك إذا خرجت تكون أفلت من جرادة العيار، قلت: لدي هذه التحارير، وأخرجت تحارير من أصحاب جرائد الستاندرد والدايلي تلغراف، ومن المستر ت. ب. أوكونر صاحب جريدة الشمس وعضو ليفربول في البارلمانت، ومن الآنسة بريستلي إحدى محررات الصحف، ومن المستر استيد صاحب مجلة المجلات حالا ومحرر البال مال غازيت سابقا، فقرأها جميعا وفهم منها أن تلك الجرائد كانت تطلب مني مقالات عن تركيا وأنا لا أجيب طلبها. فأخذ من التحارير بعض العبارات ليبني عليها تقريره، وانصرفت من عنده وأقسمت ألا أزور قناصل الدولة في كل بلاد أزورها، وأنا أؤكد اليوم أن تلك الأوامر صدرت من سخافة عقول بعض رجال المابين الذين خافوا من نشر سيئاتهم بين الإفرنج.
وفي أواسط تشرين الثاني سنة 1893 بعد أن قضيت نحو سنة ونصف سنة في إنكلترا، عقدت النية على عدم الرجوع إلى سوريا، فقررت إصدار جريدة حرة بالاتفاق مع جون هزلمون مديرها الإنكليزي، ونشرت إعلانا وزعته على جميع البلدان العربية وخصوصا سوريا وجهاتها، وهذه صورته عن النسخة المطبوعة:
رجع الصدى
جريدة سياسية إصلاحية أسبوعية من لندن تقبل جميع المقالات والرسائل بدون توقيع أصحابها.
ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين . (سورة الأعراف) «قفوا على الطرق واسألوا عن السبل القويمة أين هو الطريق الصالح وسيروا فيه.» (أرميا 6 : 16)
Shafi da ba'a sani ba
هذه الحقيقة المحزنة: أن الدولة العثمانية في خطر، وللتخلص من هذه الشدائد يجب على جلالتكم أن تتناسوا العالم الماضي وتقتادوا الأمة إلى مقاصد جليلة جديدة. (من رسالة فؤاد باشا عند موته إلى السلطان العثماني)
رجع الصدى
طالما ارتفع من أنحاء الشرق صراخ طبق جوانب الأرض صداه، فلا غرو أن يردد رجع الصدى، صراخ الأمة في أطراف المعمور، نداء الشعب يكتب بحروف من نار على جبين الدهور، أصوات منقطعة، أفئدة منفطرة، تعرب عن قلوب منتظرة، فإلى متى تصم الآذان، وقد ثبت من الصوت وجود اللسان، ومن حرقة البيان وجود الجنان، ومن حركة الخواطر أن في السويداء رجالا، لكن حبست الألسن الشرقية عن النطق بمحاسن الحرية. أستغفر الله من زلة القلم فلم يحبس لسان الشرق عن الكلام، وإن حبس القلم عن تصويب السهام. إن لسان الشرقي يلهج أبد الحياة ومنذ نشأ متحركا بعاطفة لم يجرؤ القلم في الشرق أن يرقمها على القرطاس. وإنما كلمات اللسان تدرك دائرة واسعة يضيع الصوت في مداها، فالجرائد إذن أحسن ترجمان يأتي بالمراد من الكلام سحرا حلالا. أجل، حبست الأقلام فاستوثقت في درع النكد، الطالع قد جمد، واقتصر الكلام على أحب وهام، أحاديث ما أنزل الله بها من سلطان، وقضي على الرأي العام فصار حيا في جسد ميت، وماتت الصحف في الشرق قبل أن تحيا، ولعلها ماتت لتحيا كما نحيا لنموت، لكن سبب هذه الميتة خوف في قلوب «الهيئة المحكومة» ألقته مخاوف «الهيئة الحاكمة»، فخائف من خائف، ويالله من هذا المصير. من ثم كان لصراخ الشرق - وإن همسا - صدى رددته جوانب الأرض، وهذا رجع صداه، خدمة للأمة بعثناه، وترجمان أفكار أقمناه، فإن لم يفعل الخير عاجلا بقيت آثاره حتى إذا جاء عهد الشرق في تقدم ونجاح قلنا يا قومنا اقطفوا من سعي إخوانكم ثمرا جنيا، واعتبروه على الإخلاص برهانا سنيا، فالغاية أن يقضي فرضا مأتيا. وحتى لا يقال إن هذا رجع صدى صوت شرقي فرد، وحتى يزول الخوف الذي ألقته الهيئة الحاكمة في قلوب الهيئة المحكومة، وحتى يصح أن هذا هو الرأي العام، وحتى لا يعذر المتقاعد عن خدمة وطنه، وحتى لا تقف الأغراض الذاتية في سبيل المنفعة العمومية ؛ يقبل «رجع الصدى» كل رسالة في موضوع الجريدة بقطع النظر عن اسم مرسلها، أي بدون التواقيع، بل نتحمل كل مسئولية، ويكون «رجع الصدى» صلة بين الأمم الشرقية والحكام. فليكتب الكتبة أفكارهم من وراء الحجاب إلى أن نمزق حواشيه أو نلاشيه إن شاء الله، وننشر ونقبل كل إفادة صريحة عن تقدم الغرب ونسبة الشرق إليه، وأفكار الشرقي في شرقه وبيان علة التأخر وعلاجها، وتحريض الأمم على الاتحاد.
إننا لا نقصد تخصيص الجريدة لمملكة شرقية دون الأخرى؛ فالعثمانية والفارسية والدولة العربية جميعها تجد في «رجع الصدى» ما يهم. وهذه الجريدة لا تريد الطعن ولا تقصد المضرة ولا تبدأ بالعداء، فتصل إلى المشتركين في البريد عادة الجرائد، فإذا أوقفها الخوف وحال دون وصولها الظن، استنجدت بمعدات نشأتها واستعانت بما هو مخزون في رأسمالها ووضعت في مقدمتها مجموع قوتها، فلا تقف الموانع في طريقها. انتهى.
وفي الوقت المعين أصدرت العدد الأول من الجريدة، وما كدت أنتهي من كتابة عنوانات أعدادها حتى حضر إلى لندن عمي صاحب «لسان الحال» عائدا من أميركا، فعدت وإياه إلي بيروت حيث أصدر جريدته يوميا، فحررتها مدة نصف سنة، إلى أن ظهرت حادثة الأميرة نجلا، ولاح لي من دناءة حكام بلادي وجورهم ما ضاق معه صدري مما سأذكره عند تعريب رواية الأميرة التي أجاز لي تعريبها عن الإنكليزية مؤلفها المستر فليرتون معاون المستر بلويثز مكاتب التيمس الباريزي، فرحلت مع صديقي الكريم الأمير أمين أرسلان إلى باريز، حيث أصدرنا جريدة «كشف النقاب»، وبعد مدة رأيت أن للصديق المشار إليه مقدرة كافية وحده على إصدار الجريدة، وأن من الصواب نشر مبادئ الحرية في جهتين، فأتيت الإسكندرية وأصدرت جريدة «المشير» التي فازت بالنجاح العظيم بعناية حضرات الأفاضل، وقد طرأ علي من الحوادث العظيمة والأحكام الجائرة والتهديد بالقتل ما سأعود إلى ذكره عند الكلام عن «المشير». (4) كيف تراقب الجرائد
بعد أن يكتب محرر الجريدة العثمانية مقالات جريدته وترتب حروفها وتصلح أغلاطها حتى تصير جاهزة للطبع والتوزيع، تبعث الإدارة بنسختين منها إلى المكتوبجي، وعلى المطبعة والمحرر والعملة أن ينتظروا رجوع المسودة المذكورة قبل أن يبدءوا بالطبع. وترسل المسودة عادة الساعة العاشرة إفرنجية صباحا، وقد تبقى عند المكتوبجي إلى الساعة الثالثة أو الرابعة بعد الظهر، والتعطيل شامل الإدارة والمطبعة والعملة والمحرر.
فعندما تصل المسودة إلى سراي الحكومة يأخذها العسكري الملازم في خدمة سعادته من صبي الإدارة ويضعها على طاولة مولاه، ويبقى الغلام في انتظاره إلى أن يرحم ويشفق، وعند ذلك يتنازل فيرسل المسودة المذكورة إلى أحد خلفاء قلم المكتوبجي المسمى عبد الرحمن أفندي الحوت ليطالعها قبله؛ وذلك لأن المكتوبجي الحالي عبد الله نجيب يعرف من اللغة العربية قدر ما أعرف أنا من لغة آدم. (5) عبد الرحمن الحوت
أما عبد الرحمن أفندي الحوت هذا فهو حوت في الحقيقة، تصل إليه المسودة فيقرؤها، ولما كان يعلم حق العلم أن مراقبة الجرائد لا يقصد منها إلا الاستبداد وأن لا قانون لها يجري بموجبه، أصبح المسكين يخاف من المسئولية؛ فهو إذا رأى غير شيء ظنه رجلا. وهكذا يبدأ بقراءة المسودة؛ فإذا رأى عبارة يعرف أنها لا ترضي المكتوبجي حذفها بحبر أسود، ثم تعرض له أحيانا بعض عبارات لا يدري إذا كان يجب عليه حذفها أم لا، فيقع في حيص بيص، أخيرا يضع علامة مستطيلة بحبر أحمر على جانب السطور التي تتضمن تلك العبارة التي أشكل عليه أمرها. وهكذا، فمتى انتهى من مطالعة مسودة الجريدة تكون قد صارت ذات خطوط سوداء وعلامات حمراء لا تحصى، فيكتب في ذيلها:
تقدم
عبد الرحمن
Shafi da ba'a sani ba
أي يجب أن تقدم إلى المكتوبجي، ويضع توقيعه. وفي وسع عبد الرحمن أفندي المذكور أن يضيق أعظم تضييق على أصحاب الجرائد؛ لأن المكتوبجي لا يضع توقيعه على المسودة إلا بعد أن يقرأها حوت أفندي، فلو أراد حوت أفندي أن يقضي في قراءة المسودة 10 ساعات فليس من مانع؛ ولذلك قرر أصحاب الجرائد أن تعطيه كل جريدة مبلغا من المال استرضاء له ليعجل في قراءة جرائدهم. وبعض الجرائد تدفع له ذلك المال تحت ستار المصانعة؛ أي أنها تكلفه بترجمة بعض أخبار عن جرائد الآستانة التركية مع ركاكة الترجمة وعدم تحصيل المعاني، ثم تدفع له المال كأنه أجرة ترجمة وليس بصفة رشوة. (6) عود إلى الموضوع
وبعد أن يكتب حوت أفندي في ذيل المسودة «تقدم»، يأخذه خادم الإدارة إلى غرفة المكتوبجي الذي يكتفي أكثر الأحيان بأن ينظر إلى المسودة، ولما كان لا يعرف اللغة العربية فهو يرى الخطوط الحمراء إلى جانب بعض العبارات فلا يكلف نفسه إلى طلب ترجمتها أو الاستفهام عنها، بل يقول في نفسه: لو لم يكن هنا محل ريبة وكلام سياسي لا حق للجرائد باستعماله، لما ارتاب فيها حوت أفندي، ولما كان لا يهمه تعب المحرر أو راحة القراء، يأخذ قلمه ويضرب به على كل عبارة عليها إشارة حمراء، وهكذا فبعد أن يكون مراد حوت أفندي الاستفهام، تصبح تلك العلامة إشارة لحذف المقالة، وبعد أن يفعل ذلك يكون قد حذف من المسودة 10 أعمدة وأحيانا خمسة، فيكتب في ذيل النسخة الواحدة من المسودتين:
كورلمشدر
عبد الله
وهي كلمة الإجازة للإدارة التي بدونها لا يمكن طبع الجريدة.
ولا يظن القارئ أن رحلة المسودة قد انتهت الآن؛ فإنها بعد أن يوقع عليها المكتوبجي تعاد إلى حوت أفندي ليحذف كل ما حذف في المسودة الثانية تماما، وتعاد الواحدة إلى الإدارة وتبقى الثانية عند المكتوبجي، فتصل النسخة بالحذف الذي فيها إلى محرر الجريدة المسكين، فتضطر الإدارة إلى حل الحروف ويحذف العملة ما حذفه المكتوبجي ويضعون محله مقالات أخرى، ويرسلون المسودة ثانية إلى المكتوبجي ليراقب العبارات والمقالات التي زادها المحرر بدلا من المقالات المحذوفة، فيجري ما جري أولا، وهكذا إلى أن يسمح الله بالخلاص فتطبع الجريدة ويرسل أول عدد يصدر منها مع مخصوص إلى المكتوبجي فيقابله على نسخة المسودة الثانية التي حفظها عنده؛ ليرى إذا كانت الإدارة قد حذفت كل شيء حذفه، ثم ترسل 3 أعداد من الجريدة وفي ذيلها إمضاء صاحب الامتياز بخط يده تحت توقيعه المطبوع وهذه ترسل إلى قلم المكتوبجي لتحفظ هناك، وترسل إلى الآستانة حيث يراقبها أعضاء انجمن المعارف. والغريب أن مراقبة المكتوبجي وضغطه العنيف ومنعه كل ما لا يرضاه عن الظهور في الجرائد لا يحميها من التعطيل، بل إذا رأى بعد طبع الجريدة عبارة لم يكن قد انتبه إليها قبلا، أمر بتعطيل الجريدة، أو لو رأت الآستانة مقالة لم ترض عنها، أمرت بتعطيلها أيضا.
برهاني على صدق ما أقول
سأبدأ الآن بنشر غرائب المكتوبجي، وأريد أن أؤكد لحضرات قراء كتابي أنني صادق في كل كلمة أقولها عن المراقبة؛ أولا لأنني حضرت المراقبة من أول نشأتها، ثانيا لأنني كنت بنفسي أحتمل تلك المراقبة، فأنا أروي ما عرفته بذاتي لا ما سمعته من غيري، ثالثا أستشهد على صحة كلامي بالبراهين القاطعة التي أعزز بها أخباري، فإنني أجرب ألا أذكر حادثة إلا وفيها أسماء الجرائد التي جرت لها تلك الحادثة وأسماء الأشخاص الحقيقية، فإن وجد فيمن سأورد أسماءهم من يقدر أن يقول أنني مخطئ أو أنني أروي غير الحقيقة، فأنا مستعد لنشر اعتراضه في جريدة المشير، وتأكيدا لقولي هذا فإذا اعترض علي معترض ولم أنشر اعتراضه فله ملء الحرية أن ينشره في أي جريدة أراد. رابعا سيأتي وقت يخرج بعض إخواني، الذين حرروا جرائد سوريا، من بلاد الظلم وإذ ذاك فهم يؤيدون أقوالي؛ لأنهم الآن ليس في وسعهم تأييدها. خامسا سأنشر في ذيل هذا الكتاب صورة مأخوذة بالزينكوكراف أي التصوير عن أصل مسودة من مسودات جرائد بيروت في وقت رجوعها من عند المكتوبجي مع الحذف الذي فيها، فلا يبقى مجال للريب في صحة كلامي. (1) خارطة الممالك المحروسة
إن المطبعة الأميركانية الخاصة بحضرات المرسلين الأميركان رسمت خارطة لتدريس طلبة العلم في المدارس، فبلغ أمرها المكتوبجي (الطيب الذكر)، واستدعى مدير المطبعة أسعد أفندي واكد، وجرت بينهما المحاورة الآتية:
المكتوبجي :
Shafi da ba'a sani ba
هذه الخارطة ذات ألوان مختلفة، فلماذا فعلتم ذلك ولم تجعلوها ذات لون واحد؟
مدير المطبعة :
إنما فعلنا ذلك بمقتضى قاعدة رسم الخارطات وجعلنا كل مملكة ذات لون يختلف عن لون المملكة الأخرى؛ تسهيلا للتلامذة ليتمكنوا من تمييز البلاد الواحدة من البلاد الأخرى.
المكتوبجي :
ما بالكم إذن رسمتم المملكة العثمانية بلون أبيض ومصر بلون أحمر؟!
المدير :
ذلك ليسهل على الطلبة تمييز الحدود عند تحديد البلدان.
المكتوبجي :
بل هي خيانة منكم، كأنكم تعتبرون مصر خارجة عن المملكة العثمانية وأنها مملكة مستقلة.
فأنكر المدير تلك التهمة، إلا أن المكتوبجي أبى تصديقه وأمر بضبط الخارطات جميعها، فاضطرت المطبعة الأميركانية إلى طبع الخارطة مرة ثانية وجعلت كل ما كان لتركيا من أول وجودها حتى الآن بلون واحد. (2) حرمتلو المسيو لوار
Shafi da ba'a sani ba
ذكرت جرائد بيروت اسم حضرة المسيو لوار الفرنساوي مدير البنك العثماني في بيروت، فأمر المكتوبجي أن يلقبوا المدير بلقب «حرمتلو»، ولا أدري ما القصد من ذلك. (3) سعادة محمد على باشا
كلما أوردت جرائد بيروت اسم البرنس محمد علي باشا شقيق سمو الأمير الأعظم خديوي مصر، فهي مضطرة - بأمر المكتوبجي - أن تكتبه هكذا: «حضرة سعادتلو محمد علي باشا». وقد روى ذلك الاتحاد المصري قائلا: إن جرائد بيروت تنزل أعضاء الأسرة الخديوية منزلة لا تليق بمقامها، ولكن أي ذنب لجرائد بيروت والمكتوبجي هو الآمر الناهي! (4) مصطفى بك أرسلان
قلت في عدد 21 من «المشير» إنني زرت سعادة الأمير مصطفى أرسلان قائمقام قضاء «الشوف» لما رجع من الآستانة، فقال لي: «لما وصلت إلى الآستانة لم أكتب على تذكرة زيارتي «الأمير مصطفى أرسلان» بل أجبروني على كتابة اسمي هكذا «مصطفى بك أرسلان». قلت: وما اعتراضهم على لقب الإمارة؟ قال: «إنهم لسخافة عقولهم يظنون الإمارة مخصوصة بأمير المؤمنين، مع أن لقب الإمارة عندي أقدم منه في السلطنة العثمانية.» (5) الحجر على كتاب «حافظ السلام»
لما توفي المغفور له قيصر روسيا، ألف حضرة الأديب نسيم أفندي نوفل كتابا في ذكر مناقبه، سماه «حافظ السلام» وأرسل منه بعض نسخ إلى بيروت، فصدر الأمر بالحجر عليه وعدم تسليمه لأصحابه؛ لأن فيه العبارة الآتية: «جلالة الإمبراطور نقولا الثاني قيصر روسيا الأعظم وجلالة الإمبراطورة المعظمة»، واعتراضهم على ذلك أن لقب «الجلالة» لا يجب أن يستعمل إلا للسلطان عبد الحميد. (6) عبده أفندي الحمولي
خطرت لي الآن حادثة جرت في الآستانة ليس لها علاقة مع المكتوبجي، إلا من حيث إنها تبرهن على صحة ما أرويه، فقد نشرت في عدد 37 من المشير ما يأتي: «لما ذهب حضرة المطرب الشهير عبده أفندي الحمولي إلى الآستانة بمعية سمو الخديوي، رغب السلطان أن يسمع صوته الرخيم، وقبل الوقت المعين لتشرفه بالحضرة السلطانية جاءه أحد رجال المابين وأمره أن يكتب على ورقة ما يريد أن ينشده من الأدوار، ففعل وكتب الأبيات الآتية، أو ما يقابلها في المعنى:
غاب عن عيني مرادي
وانهمل دمعي صبيب
عز من يشفي فؤادي
عندما غاب الحبيب
والدور الآخر:
Shafi da ba'a sani ba
خلعت عذاري في هواك ومن يكن
خليع عذار في الهوى سره نجوى
وكتب أيضا:
العذول أصل انتباهي
بالشمول
يا إلهي أنت جاهي
في العذول
فلما حضر السلطان أعادوا إلى عبده أفندي الأدوار المذكورة وقد حذفوا من الأول لفظة «مرادي» واستبدلوها «بحبيبي»، ومن الدور الثاني «خلعت» و«خليع» فيقرأ البيت هكذا:
تركت عذاري في هواك ومن يكن
بدون عذار في الهوى سره نجوى
Shafi da ba'a sani ba
وحذفوا من الثالث كلمة «عذول» الواردة في صدر البيت الأول وفي قافية البيت الثاني واستبدلوها بكلمة الرقيب؛ لأن مرادي تشير إلى اسم السلطان مراد، وخلعت وخليع تشيران إلى معنى خلع الملوك، وأما العذول فإنهم فهموا أنها مشتقة من عزل يعزل. (7) نسيب اللورد كرومر
ذكرت جرائد بيروت وصول حضرة اللورد نوثبروك إليها وقالت: «إنه نسيب حضرة اللورد كرومر وإن حضرته قدمه إلى سمو الخديوي»، فحذف المكتوبجي قولهم إنه نسيب حضرة اللورد، وأنه قدمه إلى سمو الأمير. (8) احتلال الإنكليز ونيل المراد
في ساعة رضى أمر والي بيروت بتعيين الأمير سعيد أرسلان لمراقبة الصحف مع المكتوبجي الذي يجهل اللغة العربية، وكان تعيينه لمدة قصيرة، ففي ذات يوم استدعى المكتوبجي الأمير إلى غرفته وقد اتقدت نار الغضب والشراسة في عينيه، فقال له: أتجهل أيها الأمير أني لا أزال المسئول من الدولة عن الجرائد وإن عهد أمرها إليك؟ فلماذا تسمح لها أن تحرر ما يمس صوالح الدولة؟ قال الأمير: «ما الذي نشرته اليوم فقد قرأت مسودتها ولم أبق ما يوجب اللوم.» فازداد المكتوبجي غضبا وأخذ نسخة من جريدة البشير الكاثوليكية وقال للأمير: انظر هذه العبارة: «نيل المراد» في رسالة لمكاتب الجريدة المصري، فإن قصد المحرر من «نيل» نهر النيل في مصر، وما أدراك ما هي الغاية من مصر والنيل مع وجود الإنكليز في القطر المصري، وأما هذه اللفظة (وأشار إلى «مراد» بإصبعه) فلا أقوى على لفظها بفمي إذ يرتجف قلبي، ولا شك أن المحرر يريد غاية سياسية خفية من الجمع بين النيل ومراد. فحاول الأمير أن يفهم الرجل معني «نيل المراد» أي إدراك القصد ولكنه حذف المقالة بأسرها، فراجع مدير البشير حضرة الوالي الذي أمر بإرجاع المقالة معتذرا عن المكتوبجي بجهله لغة البلاد. (9) الإمبراطور محمد علي الطرابلسي
تعين هذا الإمبراطور الجديد بإرادة سامية من حضرة سعادتلو عبد الله أفندي نجيب مكتوبجي ولاية بيروت، وإليك البيان نقلا عن عدد 36 من المشير. كتب إلي من بيروت مع البريد الأخير أن جريدة المصباح نشرت الإعلان الآتي:
إن قطعة الأرض المشتملة على بيت مؤلف من 4 أوض ومطبخ ودار ملك محمد علي الطرابلسي معدة للأجرة، وعلى الراغبين مخابرة صاحبها.
وأرسلت مسودة الجريدة إلى المكتوبجي، فلما قرأ الإعلان استشاط غيظا وحذف لفظة «ملك»، فسأله الأمير سعيد أرسلان وكيل المراقبة عن سبب ذلك، قال: «لا ملك إلا الذات الشاهانية»، وعبثا حاول الأمير إقناعه بغلطه، وبعد أن قدح زناد الفكر طويلا قال: قد وجدت طريقة أوفق، وذلك أن أستبدل لفظة «ملك» بلفظة «إمبراطور»، وهكذا فعل وأعيدت المسودة إلى إدارة المصباح وقد صار الإعلان هكذا:
إن دار الإمبراطور محمد علي الطرابلسي معدة للأجرة.
فأسرع مدير المصباح إلى والي بيروت وأطلعه على المسودة، فضحك كثيرا قدر ما بكى المحرر على بنات أفكاره الذاهبة ضحية جهل المكتوبجي، وعنفه على جهله. (10) محمد أفندي سلطا-ني
كتبت جرائد بيروت أن أحمد أفندي سلطاني زايل الثغر لزيارة شقيقه محمد أفندي سلطاني المقيم في الآستانة، فحذف المراقب النون والياء من سلطاني وهكذا بقي الاسم «محمد أفندي سلطا»؛ لأن السلطان لا يكون إلا لعبد الحميد، وفي حادثة أخرى حذف لقب سلطاني بأسره واستبدله بمخزومي؛ لأن عائلة سلطاني لها لقب المخزومي. وقد فعل مثل ذلك رامز بك قاضي بيروت لما عرضت عليه حجة شرعية باسم أحد أفراد عائلة سلطاني فحذف النون والياء، ولا تزال تلك الحجة بين أوراق محكمة بيروت الشرعية. (11) منع الحداد على الموتى
وجد المكتوبجي ذات يوم أنه ليس في المسودة التي قدمتها له ما يليق حذفه، ولكن أبى إلا أن يحذف شيئا؛ اتباعا لقول الشاعر:
Shafi da ba'a sani ba
إذا كنت لا تنفع فضر فإنما
يراد الفتى كيما يضر وينفع
فرأى في الجريدة ذكرت موت أحد الأهالي وعلى المقالة خط أسود، فحذفه زاعما أن ذلك الخط الأسود يشوه وجه الجريدة، شوه الله وجهه كما لا يزال يشوه بجهله وجه الأدب. (12) لم يمت كارنو
بعد أن صدر «لسان الحال» يوميا بأيام قليلة، جاءتنا رسالة برقية من صديق باريزي تنبئ بمقتل المسيو كارنو رئيس جمهورية في ليون من خنجر كازاريو الشقي، فنشرت التلغراف، إلا أن المكتوبجي حذف خبر قتله وأمرنا أن نقتصر على ذكر موته بقولنا: «انتقل إلى رحمة ربه»؛ لأن ذكر قتل الملوك يخيف الأتراك لأنه يخيف سلطانهم، فاضطررت إلى أن أفعل ذلك مكرها. (13) البويجية دعاة الجمهورية
وأرسلت الغلمان لمبيع الجريدة في الشوارع وأوعزت إليهم أن ينادوا: «موت رئيس جمهورية فرنسا»، تنبيها للناس إلى الإقبال على ابتياع الجريدة، وفي المساء لم يحضر الأولاد لتقديم حساب المبيع كالعادة، ثم جاءني خبر أنهم جميعا في السجن، فهرولت إلى مدير البوليس أسأله السبب، قال: إنهم ينادون في شوارع المدينة بالجمهورية، قلت: بل هم ينادون بموت رئيس جمهورية فرنسا، قال: ألا تدري أن هذه اللفظة ممنوع استعمالها هنا؟! فوعدته ألا أعود إلى ذكرها، وهكذا أطلق سراحهم. (14) نعلن لحضرة العموم
وعلى ذكر الجمهورية أقول: جرت العادة أن ينشر الناس إعلاناتهم هكذا:
نعلن لحضرة الجمهور أننا قد أنشأنا مدرسة ... إلخ.
فأمر المكتوبجي أن تحذف لفظة الجمهور فيما بعد من الإعلانات وأن تستبدل بقولنا «نعلن لحضرة العموم»؛ لأن كلمة «جمهورية» تخدش الأذهان، وهكذا فإنك لا تجد في جرائد بيروت لفظة جمهورية على الإطلاق. (15) هل الصليب مقدس
نشرت جريدة البشير الكاثوليكية أن قد وافق اليوم عيد الصليب المقدس عند الطوائف النصرانية، فحذف المكتوبجي لفظة «المقدس»، إلا أن مدير البشير اعترض فلم ينفع اعتراضه واضطر إلى حذف اللفظة، لكن ما لبث الآباء أن رفعوا شكواهم رسميا إلى الآستانة بواسطة سفير فرنسا، فكانت النتيجة - على ما يقال - عزل المكتوبجي حسن فائز لأول مرة. (16) صاحب العزة
نشرت جرائد بيروت يوما ما خبرا عن أحد الوجهاء وهو صاحب الرتبة الثانية، فبدلا من أن تقول: «عزتلو فلان أفندي» قالت: «حضرة صاحب الوجاهة والعزة فلان أفندي»، فحذف المكتوبجي ذلك قائلا: إن العزة لله. (17) موت شاه العجم
Shafi da ba'a sani ba
في شهر مايو من سنة 1896 هجم أحدهم على المغفور له شاه العجم ففتك به برصاصة أصابته فذهبت بآمال الأعجام، ونشرت جميع جرائد العالم خبر هذا المقتل الفظيع، إلا جرائد بيروت فإنها نشرت الخبر كما يأتي:
ورد قبيل عصر أمس نبأ برقي رسمي ينعي المرحوم المغفور له ناصر الدين خان شاه إيران المعظم، فنكست قناصل الدول أعلامها وأسف القوم على هذا المصاب الجلل.
وقد ذكرنا في عدد سابق أنهم كانوا في بلاد فارس يستعدون استعدادا عظيما للاحتفال بعيد جلوسه للسنة الخمسين في السادس من هذا الشهر، فوافاه القدر المحتوم فجأة في وسط ذلك الاستعداد قبيل حلول العيد بيومين أو ثلاثة. رحمه الله وجعل الجنة مثواه. (18) مالوك وليس ملوك
قدم بيروت أحد أفراد عائلة ملوك الشهيرة في مدينة بعلبك، وأظن أن اسمه يوسف أفندي، بعد أن قضى مدة في أستراليا، فكتبت أن قد حضر إلى بيروت حضرة الوجيه يوسف أفندي ملوك، فما كان من المكتوبجي إلا أن حذف اللقب فأصبح الاسم يوسف أفندي، قلت له: إن في سوريا مائة ألف يوسف، قال: إن الملوك لا يكونون في بعلبك، قلت: إن الرجل ليس ملكا ولكن اسمه ملوك بتشديد اللام وأنا أضع الشدة على اللام، قال: إنها تفقد في الطبع، فاضطرني الأمر إلى نشر الاسم هكذا: «حضرة الوجيه يوسف أفندي مالوك»، وإذ ذاك سمح سعادته بنشر الاسم. (19) المأمون والمكتوبجي
كنت أرسل المسودة في عهد حسن فائز أفندي مكتوبجي بيروت السابق الساعة الواحدة بعد الظهر، فيعيدها إلي الساعة الرابعة وقد حذف منها 6 أعمدة لم يجدها موافقة لذوقه اللطيف، فحدث ذات يوم أنني استبدلت المقالات المحذوفة بمقالات كنت قد أعددتها استعدادا لمثل هذا الاستبداد، وبقي علي أن أملأ فسحة عمود والبريد على وشك أن يسافر، فنقلت إلى الجريدة قصة من نوادر الخليفة المأمون أخذتها بحروفها من كتاب «إعلام الناس فيما جرى للبرامكة مع بني العباس» ظنا مني أنها أمينة من شره، وأخذت المسودة إليه هذه المرة بنفسي، فحذف قصة المأمون. قلت: لماذا؟ قال: هذه أحاديث خلافة مرت عليها الأعوام ولا نريد إعادة ذكرها على الأسماع. قلت: ارحمني يرحمك الله إذ يستحيل علي إصدار الجريدة اليوم إذا تم الحذف. قال: أشفق عليك إذن، وسمح بإثبات القصة بعد أن أصلح فيها ما يأتي:
استبدل كلمة أمير المؤمنين بالحاكم، والخليفة كذلك، والأعرابي بالرجل، وحذف اسم المأمون من كل المقالة واستبدله ب «أحد الحكام»، وهكذا نشرت المقالة. (20) كلام بدون معنى
فلما رأيت أنه يحذف كل مقالة مفيدة ذات معنى، أردت أن أمتحن درجة فهمه ومبلغ التضييق، فكتبت مقالة سياسية تحت عنوان «الأحوال الحاضرة» في صدر الجريدة، قلت فيها ما يأتي:
قد عم السلم الأرض قاطبة وقام الملوك والوزراء يعلنون مقاصدهم السلمية، فذهب حشمتلو الإمبراطور كارنو الثالث قيصر روسيا إلى أميركا وألقى هناك خطبة لا تختلف في لهجتها السلمية عن الخطبة التي ألقاها المستر بسمارك رئيس وزارة إنكلترا في شيلي. قال فيها إنه تم عقد التحالف مع حضرة الإمبراطورة أوجيني ملكة فرنسا والأرشيدوق رودلف إمبراطور البرازيل، على ضم إمبراطورية سويسرا إلى جمهورية ألمانيا، والاتفاق على مد خط حديدي تحت بحر البلطيق يساعد على تسهيل التجارة بين أفريقيا والقوقاس، وهكذا فالعالم السياسي اليوم في راحة تامة ...» إلى آخر ما هناك من الخلط والمبالغة، فصادق المكتوبجي عليها وذيلها باسمه الكريم مع كلمة «كورلمشدر»، وطبعت في «لسان الحال» وانتشرت بين الناس كما يذكر كل من قرأها من الأدباء.
ومعلوم أن كارنو كان رئيسا لجمهورية فرنسا ولم يخرج من فرنسا مطلقا، والبرنس بسمارك كان في ألمانيا ولا علاقة له بوزارة إنكلترا ولم ير بعينه بلاد شيلي، والإمبراطورة أوجيني منفية من بلادها والإمبراطورية ملغاة من فرنسا، كما أن الأرشيدوق رودلف كان قد مات منتحرا، والبرازيل صارت جمهورية، وسويسرا جمهورية، وألمانيا إمبراطورية، وبحر البلطيق يبعد عن أفريقيا قدر ما يبعد العقل عن رأس حضرة المكتوبجي، ومع ذلك سمح بنشرها. (21) الجمهور
إن محرر الجريدة في بيروت لا يجوز له أن يذكر كلمة جمهور بل يجب أن يقول الشعب أو القوم، وفي الإعلانات يقال عادة: «نعلن لحضرة الجمهور»، فيحذفها المكتوبجي ويضع محلها القوم؛ وذلك خوفا من اشتغال أفكار القراء بالجمهورية والميل إليها. (22) أيها الغلاطيون الأغبياء
Shafi da ba'a sani ba
ورد في الإصحاح الثالث من رسالة بولس الرسول إلى أهل غلاطية، في العدد الأول ما يأتي: «أيها الغلاطيون الأغبياء من رقاكم حتى لا تذعنوا للحق أهكذا أنتم أغبياء؟!»
وحدث أن جريدة دينية للبروتستانت نشرت موعظة لأحد القسس، جعل موضوعها قول بولس الرسول لأهل غلاطية، فلما قرأها المكتوبجي استشاط غيظا وقال: من هو بولس القليل الأدب الخائن الكافر الذي تجاسر أن يشتم أهل غلطة (وهو قسم من أقسام الآستانة). (23) خالد
لما توفيت المرحومة زوجة المرحوم سعادتلو يوسف بك مطران في القاهرة تلك الميتة المحزنة، نشرت جريدة «لسان الحال» رسالة من القاهرة في وصف الفاجعة وصدرها الكاتب بهذين البيتين:
لا بد من فقد ومن فاقد
فليس بين الناس من خالد
كن المعزى لا المعزى به
إن كان لا بد من الواحد
فحذف المكتوبجي كلمة «خالد» من قافية البيت الأول واستبدلها بكلمة «طائد»، فقلت له: لماذا فعلت ذلك؟ قال: اسم والي بيروت «خالد»، قلت: نعم، وماذا؟ قال: لا يجوز إيراد اسم الوالي في سبيل الحزن والتعزية، قلت: الأمر لسعادتكم، ولكن ما هو معنى «طائد»؟ قال: «ثابت». قلت: وما هو أصلها؟ قال: من الطود. ولله دره ما أقدره على الاشتقاقات اللغوية في أمثال تلك المواضع! فضحكت وخرجت، وهكذا انتشر البيت المذكور على هذه العلة الخبيثة. (24) مكدرا
لما قتل المسيو كارنو رئيس جمهورية فرنسا، كتبت مقالة في صدر الجريدة التي كنت أحررها في بيروت ضمنتها تعزية الأمة الفرنساوية على مصابها، وافتتحتها ببيتين للشاعر «الأخرس» الشهير، قال في البيت الثاني:
وإن الليالي لم تزل بورودها
Shafi da ba'a sani ba
تسل علينا بالأهلة خنجرا
فجمد الدم في عروق المكتوبجي وحذف «خنجرا» واستبدلها بخط يده بكلمة «مكدرا»، وقصد من الكلمة ألا يرد ذكر القتل والخناجر في وصف موت الرجل أو قتله. (25) متى غضبت
عادت إلي المسودة ذات يوم وقد منع منها المكتوبجي حسن فائز 12 عمودا؛ أي نصف الجريدة، فهرولت مسرعا إلى سراي الحكومة ودخلت عليه، فقلت: لماذا منع مولاي كل المقالات وليس فيها ما يخشى منه؟ قال: إنني لا أمنع نشر جميع ما منعته، ولكن أردت أن تحضر إلي بنفسك. قلت: لماذا لم تأمر الغلام باستدعائي؟ قال: متى غضبت منك أمنع نصف الجريدة حتى تأتي إلي، وهي أحسن رسالة وأعجل رسول، قلت: وهل أنت غاضب علي الآن؟ قال: نعم، قلت: لماذا؟ قال: لأنك خائن للسلطان والدولة والأمة، فاقشعر جسدي وخفت أن يأمر بزجي في السجن بعد تلك التهمة الفظيعة. (26) نفر
قلت له: ما الذي ظهر لك من جنايتي؟ قال: إنه بالأمس لما رجع المطران إلياس الحويك الماروني من رومية، ملأت نحو 3 أعمدة من الجريدة في وصف الاحتفال بقدومه والخطب التي ألقيت أمامه، واليوم لما سافر عثمان نوري باشا المشير المعظم، اكتفيت بنشر التفاصيل وقلت إنه ذهب لوداعه «نفر» من الجند. ألا يعد ذلك خيانة؟! قلت: وأين الخيانة؟ قال: أنك قلت إنه لم يذهب معه إلا نفر، والصحيح أنه ذهب لوداعه عدد غفير من العساكر، قلت: يا مولاي خفض عليك، فالنفر في اللغة العربية لا تفيد الرجل الفرد فقط بل الجماعة، قال: أنا لا أحمل القاموس في جيبي، فإذا كتبت فاكتب ما أفهمه. (27) عواطف المكتوبجي الرقيقة
توفي في كفر شيما أحد أفراد عائلة كرم، وكان محبوبا، فرغب إلي مدير الجريدة أن أؤبنه على صفحات اللسان تأبينا حسنا ، وأن أذكر في مقام التأبين حالة أرملته وأولاده وأن أكتب عنهم بعض عبارات مؤثرة؛ لعل ذلك يحرك عواطف الشفقة في صدور الجمعية الخيرية لمساعدتهم، ففعلت وأخذت المسودة إلى المكتوبجي بنفسي، فلما قرأ التأبين المذكور حذف العبارات المحزنة المؤثرة، ولما سألته عن السبب أجاب: إن كلامك هذا يؤثر كثيرا على القارئ وأنت ليس من واجباتك أن تبكي قراء جريدتك، وأصر فلم أر بدا من الخضوع لأمره. (28) قصيدة الفرصاد
اتصلت بي قصيدة فرنساوية ذات معان جميلة، فاقترحت على جناب الفاضل اللغوي والشاعر الشهير عبد الله أفندي البستاني أستاذ البيان في مدرسة الحكمة أن يعربها شعرا فأجاب، ولما تم نظمها نشرتها في «لسان الحال»، إلا أن المكتوبجي - لعنه الله - منع نشرها، ولا أدري لأي سبب، ومن الغرائب أنني بعدما هجرت بيروت وأقمت في لندن مدة إذا ب «لسان الحال» قد ورد إلي ذات يوم وفيه القصيدة وقد سمح المكتوبجي بنشرها. ومن هنا تعلم أيها القارئ أن الرجل يريد قتل العقول فقط والتضييق على الكتاب إلى أن يضجروا، وإلا فكيف منع نشرها ثم سمح بذلك بعد سنتين. ولكي يدرك القارئ درجة إدراك الرجل أنشر الأبيات المشار إليها؛ ليشترك معي القارئ في الدهشة والاستغراب.
الفرصاد أو التوت الشامي
صورة قصيدة فرنسية تتضمن سرد حادثة، خلاصتها أن شابا اسمه بيرام أحب ابنة اسمها تسبة، وكانا متجاورين لكن بين عائلتيهما نفار يمنع اجتماعهما، حتى إذا عيل صبرهما اختطفها الشاب من ثغرة دار أبيها ولجأ بها إلى مغارة أمامها شجرة توت ثمرها ناصع البياض، وانصرف بيرام إلى المدينة يأتي بحاجاتهما، فخرجت تسبة إلى ظل التوتة ترتاح وقد ألقت رداءها على أصل الشجرة، وإذا بها تسمع زئير أسد فهربت إلى المغارة، وجاء الأسد فمزق الثوب وضرجه بدم باق في فمه وعلى مخالبه وانصرف، فجاء بيرام ورأى الثوب فحسب أن الحبيبة كانت فريسة الليث فانتحر.
ولما هدأ روع تسبة خرجت فرأت حبيبها على تلك الحال فندبته وانتحرت بجانبه، وفي القصيدة الفرنسية أن دم العاشقين سرى إلى أصول الشجرة فاسود لون الثمر حدادا عليهما.
مترجمة عن الإفرنسية بقلم جناب اللغوي المدقق والشاعر المجيد عبد الله أفندي البستاني أستاذ البيان في مدرسة الحكمة المارونية، إجابة لاقتراح محرر المشير، إذ كان في تحرير «لسان الحال» في بيروت:
Shafi da ba'a sani ba
وذات صيانة عقدت يمينا
على حب امرئ عقدا مكينا
تسبته بجفن لا يبالي
إذا الأسياف زايلت الجفونا
ولكن طالما نظرت إليه
بعين قد تهيبت العيونا
وشاقته زيارتها ولكن
رأى دون اللقى حصنا حصينا
ففي أبويهما ضغن قديم
تلبث في ضلوعهما كمينا
Shafi da ba'a sani ba