سارت في الدهليز الضيق المظلم، وصعدت السلم، وقفزت قدماها المدربتان فوق الدرجة المفقودة، وتفادتا قضيب الحديد البارز من «الدرابزين»، ووصلتا إلى الدور الرابع وانحرفتا إلى اليمين لتعبرا ممرا طويلا، وفاحت رائحة البول النتنة، وأشاحت بأنفها بعيدا عن باب دورة المياه، ثم دخلت من الباب الثاني المجاور لها، فأصبحت في مكتبها.
سارت إلى مكتبها وجلست، وأخرجت من الدرج فوطة صفراء ومسحت التراب من فوق المكتب فبدت قشرته السوداء وقد انتزعت في بعض أجزائها وظهر من تحتها لحم المكتب الأبيض، وأعادت الفوطة إلى مكانها في الدرج ثم رفعت رأسها، ورأت المكاتب الثلاثة الأخرى ملتصقة بعضها بالبعض في صف واحد طويل، ومن فوقها تبرز الرءوس الثلاثة المحنطة.
كانت الرائحة النتنة لا تزال في أنفها، وقد أضيفت إليها رائحة أخرى غريبة كتلك الرائحة التي تبيت في حجر النوم المغلقة المحكمة الإغلاق، ونهضت لتفتح النافذة لكن صوتا غليظا أشبه ما يكون بزمجرة حيوان مريض، قال: الدنيا برد! لا تفتحي.
عادت لتجلس إلى المكتب، وأخرجت من الدرج ملفا كبيرا، وتأملت الغلاف السميك الخارجي، ومن فوقه رقعة صغيرة بيضاء كتب عليها: الأبحاث الكيمياوية الحيوية. إنه خط يدها، والحروف مكتوبة بعناية وأناقة، كل حرف ضغط عليه بالقلم الحبر، إنها تذكر كيف ضغطت بالقلم على كل حرف، كان القلم جديدا، ودواة الحبر جديدة، لا تزال تذكر رائحة الحبر، كان منذ ست سنوات، لكنها تذكر الرائحة، وتذكر شكل أصابعها وهي تضغط على الحروف، كانت قد وقعت قرار استلامها العمل الجديد في قسم الأبحاث الكيمياوية الحيوية، وارتجفت أصابعها وهي تكتب اسمها تحت القرار الرسمي، أول مرة توقع قرارا رسميا، أول مرة يكون لتوقيعها قيمة رسمية.
وفتحت الغلاف، وظهر لها بطن الملف الأصفر، وقد شبك فيه من الوسط قضيب رفيع من الصفيح، تتدلى منه ورقة بيضاء، ليس عليها خط واحد.
أغلقت الملف وأعادته إلى الدرج ثم رفعت رأسها إلى السماء، لكن عينيها اصطدمتا بالسقف، فنهضت وسارت لتقف بالقرب من النافذة، ولتنظر من خلال الزجاج المتسخ إلى السماء.
شيء ما في السماء يجعلها تستريح ... ربما الاتساع، ربما اللون الأزرق القوي الثابت تحت ذلك البياض الزاحف، أو ربما لأن السماء تذكرها بفريد.
وهي لا تعرف ما العلاقة بين السماء وفريد؟! ولكنها تعرف أن هناك علاقة ما بينهما، ربما لأنها تكون موجودة دائما حين يكون فريد موجودا، أو لأنها تكون موجودة أيضا حين يغيب، وفريد لم يأت ليلة أمس إلى الموعد، أول مرة يخلف الموعد، ولم يتكلم في التليفون ولم يعتذر. ما الذي حدث ...؟
وبدت السماء ثابتة صامتة كأنها متواطئة معه، وواصلت السحب البيضاء زحفها وكأن شيئا لا يعنيها، وبرزت رءوس الأشجار من فوق المباني البعيدة سوداء متعرجة كالأورام.
فريد غاب لسبب، كل شيء يحدث في الحياة لسبب، الأشياء التي ظنت يوما أنها حدثت بغير سبب اتضح سببها بعد حين، ولكن ما السبب؟ قد تكون هناك حادثة أو مرض أو موت عزيز، وقد يكون شيئا آخر. ونقرت بأصابعها فوق زجاج النافذة، نعم، قد يكون شيئا آخر أراد فريد أن يخفيه؛ كان يخفي أشياء، كان يخفي أوراقا في أدراج مكتبه، وكان يغلق الباب أحيانا حين يتكلم في التليفون.
Shafi da ba'a sani ba