نعم؛ لم يعد إلا جدار. وهل كان هناك شيء آخر؟! ليس هناك شيء، كل شيء اختفى كأنه حلم، وما الفرق بين الحقيقة والحلم؟ لو ترك ورقة صغيرة بخط يده لاستطاعت أن تعرف ... ورقة عليها حروف تستطيع أن تفرق بين الحلم والحقيقة، أما هي برأسها وذراعيها وساقيها فلا تستطيع.
وهزت رأسها في ضيق، كان رأسها ثقيلا كأنما تحجر، كأنما أصبح هو الآخر جدارا من الطوب، وهل كان شيئا آخر؟ هل كان شيئا سوى جدار مصمت يردد الصدى، يردد ما سمع وما قرأ، هل قال شيئا من عنده؟ هل قال شيئا جيدا لم يقله أحد من قبل؟ ألم يكن يطلق ذلك الصفير الحاد المتواصل حين تصمت كل الأشياء؟
وبدأ الصفير يطن في رأسها فأمسكته بين يديها وجلست على السور الحجري، وظلت مطرقة لحظة ثم رفعت عينيها المحتقنتين بالدم إلى السماء، أكان كل ذلك حلما؟ أكانت أحاسيسها وهما؟ وإذا كذبت أحاسيسها فماذا تصدق؟ ماذا يمكن أن تصدق؟ اسما مكتوبا على جدار؟ اسما مختوما فوق بحث؟ كلمة مطبوعة في صحيفة؟
ودارت بعينيها الحمراوين في السماء. وأنت يا سماء، هل أنت الجدار العلوي الذي يصنع السقف؟ هل أنت جدار مصمت كأي جدار؟ وهزت يديها في الهواء وقالت بصوت عال: هل أنت جدار؟ لماذا تصمتين؟
وحملق فيها رجل كان يسير في الشارع. واقترب منها يتفحصها بعينيه الضيقتين السوداوين ثم ابتسم نصف ابتسامة، وقال: أدفع لك ريالا فقط؛ إن ساقيك رفيعتان، ونظرت إليه في ذهول ثم رفعت جسمها الثقيل من فوق السور وحملتها قدماها بغير وعي منها إلى بيتها. •••
كان باب البيت مفتوحا، والصالة مليئة بالناس، وجوه تعرفها ووجوه لا تعرفها. كانوا ينظرون إليها بعيون غريبة، وسمعت صوتا عاليا كالصراخ، ورأت وجها يشبه وجه أمها بغير تجاعيد، إنها خالتها سعاد بجسمها السمين وفستانها الأسود الضيق، وسمعت صوتها الحاد يصرخ: فؤادة ...
وحوطتها بذراعيها السمينتين القصيرتين، والتف حولها نساء كثيرات يصرخن في صوت واحد وتفوح من ملابسهن السوداء رائحة عطر، وكادت تختنق، فدفعت عنها الأجسام السمينة وصاحت بأعلى صوتها: ابتعدوا عني!
وتفرقت من حولها النساء مذعورات. وسارت بخطوات ثقيلة بطيئة إلى حجرة أمها، كانت نائمة فوق السرير، وقد غطي جسمها ورأسها، واقتربت منها بخطوات وجلة، ومدت يدها بحذر لتكشف الغطاء. وظهر رأس أمها ملتفا بالطرحة البيضاء، ووجهها ذو التجاعيد، وعيناها مغمضتان، وفمها مطبق، والحلق الذهبي الصغير في أذنيها، إنها نائمة كما كانت تنام، لكن أنفاسها ليست عالية.
وتفرست في جسمها؛ كانت ملامحها تتغير شيئا فشيئا، كأنما تهبط في وجهها وتلتصق بعظامها ويضيع منها الدم. وسرت في جسمها قشعريرة؛ أصبح وجه أمها كوجه تمثال من الجرانيت يشع برودة غريبة، وأعادت الغطاء فوق الرأس وهي ترتعد، ودوى الصراخ في أذنيها كصفير حاد متصل، وسارت إلى حجرتها كالتائهة، لكن حجرتها كانت مليئة بوجوه لا تعرفها، وخرجت إلى الصالة، كانت العيون الجاحظة الغريبة تحوطها وتحاصرها، والصراخ يدوي في رأسها، وسارت ناحية الباب بغير وعي، واختفت خلف الباب لحظة ثم هبطت السلم وخرجت إلى الشارع تجري.
لم تكن تعرف إلى أين هي تجري، لكنها كانت تجري وتتلفت وراءها كأنما يطاردها شبح، كانت تريد أن تهرب إلى مكان بعيد لا يراها فيه أحد، لكنه لم يدعها تهرب، لمحها وهي تجري في الشارع فأوقف العربة الزرقاء وجرى خلفها وأمسكها من ذراعها قائلا: فؤادة ... إلى أين تجرين؟ ووقفت تلهث، ورأت عينيه الجاحظتين ترتجان من تحت زجاج النظارة، وقالت بصوت خائر: لا أدري.
Shafi da ba'a sani ba