وتلفتت حولها كالتائهة، هل الأحاسيس خرافة أم حقيقة؟ لماذا تنظر في عيني فريد فتحس أنه قريب، وتنظر في عيني الساعاتي فتحس أنه لص؛ أهي وهم أم علم؟ أهي حركة عشواء في أعصاب العين أم حركة واعية في خلايا المخ، وكيف تفرق بينهما؟ كيف تفرق بين ذبذبة خاطئة لعصب مرهق وبين فكرة سليمة لخلية في المخ؟ وكيف تفكر خلية المخ؟ تلك الكتلة الصغيرة من البروتوبلازم كيف تفكر؟ من أين تأتيها الفكرة، وكيف تسري في نسيجها المادي، كهرباء! تفاعل كيمياوي!
ورفعت رأسها لترى ما حولها، ولمحت العمارة ومن فوقها اللافتة البيضاء تحمل حروف اسمها السوداء، وانقبض قلبها، الأنبوبة ذات الفوهة المفتوحة وقاع بغير محتوى، ولسان اللهب يحرق الهواء ويحترق، وذلك الصفير الحاد يدوي في الأذنين حين تصمت كل الأشياء.
نعم؛ إنه المعمل، لكنه لم يعد معملا، أصبح مصيدة يتصيد عجزها، يتصيد جهلها، يتصيد الصمت واللاشيء من رأسها.
ومرت أمام باب العمارة ولم تدخل، وسارت بضع خطوات ثم توقفت؛ إلى أين تذهب؟ كل مكان أصبح كالمعمل مصيدة للعجز والصمت والصفير، البيت والوزارة والتليفون والشارع، كل شيء أصبح متشابها كأنه مترابط.
وعادت لتدخل إلى العمارة ولتصعد إلى المعمل. لا مفر ولا مهرب، المصيدة تفتح فكيها وهي تدخل بينهما، وسيأتي الساعاتي بعد قليل، سيأتي حتما إلى المعمل أو إلى أي مكان، فقد عرف كل مكان؛ عرف التليفون والبيت والوزارة والمعمل، سيأتي بعربته الطويلة الزرقاء وعينيه الجاحظتين ورقبته المكتنزة باللحم، سيأتي حتما، فلماذا لا يختل توازن الأرض فيهتز حامل الأنابيب وتسقط الأنبوبة الفارغة وتنكسر؟ لماذا تدور الأرض بكل هذا الاتقان؟ لماذا لا يختل توازنها مرة واحدة فحسب؟
كانت قد دخلت المعمل، وارتدت الفوطة البيضاء، ووقفت وراء النافذة تتأمل الشارع وتراقب العربات كأنما تنتظره، كانت تنتظره فعلا، ورأت العربة الزرقاء الطويلة تقف أمام العمارة، وخرج منها الساعاتي بنصفه الأعلى الضخم وساقيه الرفيعتين.
وسارت بخطوات ثقيلة نحو الباب، ولمحت نفسها في المرآة الطويلة المجاورة للباب؛ كان وجهها قد نحل واستطال، وعيناها غاصتا في محجريها وانطفأتا، وفرجة فمها زادت اتساعا، وأسنانها برزت أكثر وأكثر فكأنها أسنان أمها.
وأطبقت شفتيها لتخبئ أسنانها، وضغطت فكها الأعلى فوق الأسفل بكل قوتها لتسحق أسنانها بينهما، أو لتسحق شيئا آخر. لا بد أن يكون هناك شيء يسحق. واصطكت أسنانها محدثة صوتا معدنيا. دق جرس الباب، وضربت الهواء بقبضتها، وقالت: لن أفتح! ووقفت جامدة كالتمثال، ودق الجرس مرة أخرى فازدادت أنفاسها سرعة وأصبح صدرها يعلو ويهبط كأنما تلهث وتلفتت حولها وتصيدت الفوهة المفتوحة عينيها كالفخ، فسارت وفتحت الباب. •••
كان يحمل في يديه السمينتين علبة صغيرة، وتقلصت شفته العليا كاشفة عن أسنانه الكبيرة الصفراء وتذبذبت عيناه الجاحظتان من تحت الزجاج السميك، وقال: هدية بسيطة. ووضع العلبة فوق المنضدة وجلس.
وظلت واقفة تنظر إلى الشريط الرفيع الأخضر الملتف حول العلبة، وسمعت صوته المبتهج يقول: افتحي العلبة. إنه يوجه إليها أمرا! إنه يكتسب لنفسه حقا في أن يأمرها! لقد دفع ثمن هذا الحق وله أن يستخدمه. ونظرت في عينيه، كانتا تتذبذبان بدرجة أقل، كأنما بدأ يثق في نفسه بعض الشيء. إنه أعطاها شيئا، وإنه دفع له ثمنا، إنه أصبح قادرا على أن يشتري منها شيئا، أي شيء، ولو ذلك الحق في أن يأمرها بأن تفتح العلبة. وظلت واقفة لا ترد.
Shafi da ba'a sani ba