عندئذ اجتمع عدد عظيم من المتآمرين بدار السيد عمر مكرم، وكان بين الجميع الشيخ السادات، والسيد أحمد المحروقي، والشيخ الجوهري، ونيكلسون ومحمود العسال.
وبعد أن طال الاجتماع وزاد اللغط والجدال، دخل الحاج مصطفي البشتيلي زعيم الثوار ببولاق فقال: إن العثمانيين دخلوا القاهرة وانتصروا على الفرنسيين في موقعة عين شمس، فصاح محمود العسال: يجب أن نقضي على الحامية الفرنسية الباقية بالقاهرة، وألا نبقي على أحد منهم، فصمم الجميع على الجهاد، وأرسلوا المنادين يدعون الناس إلى إقامة المتارس وحفر الخنادق، وبعثوا البعوث في شمال مصر وجنوبها لبث روح المقاومة والعصيان في كل مكان، وزاد في حماسة المصريين دخول ناصف باشا قائد جيش العثمانيين إلى القاهرة، وحوله عدد من كبار قواد المماليك، وكان من أشد الناس نهوضا بالأمر وتعصبا له أعرابي ملثم، أخذ يعدو بجواده بين أحياء القاهرة محرضا مشجعا داعيا إلى الموت في سبيل الله والوطن، ومن المحزن أن نقرر هنا: أن هزيمة الفرنسيين كانت أكذوبة خدع الترك والمماليك بها سكان القاهرة، وأن كليبر انتصر على الترك انتصارا حاسما ورد جيوشهم إلى الصالحية، وانقلب إلى القاهرة بجنوده ليطفئ ثورة الثائرين.
ذهب نيكلسون ومحمود إلى دارهما بعد أن انفض الاجتماع ، وقد هالهما ما رأيا وسمعا، وتوجسا خيفة من عواقب الأمر، وخشيا أن تبوخ الثورة كما باخ غيرها، وتعود مصر إلى الأسر المهين.
قابلتهما لورا مذعورة وقالت: ما هذا يا محمود؟ إني رأيت من النافذة رجال الحي جميعا يتسلحون للقتال، وشهدت فارسا أعرابيا يدعوهم إلى الجهاد، ويحثهم على قتال الفرنسيين!! - هذه الثورة يا لورا، وهي آخر سهم في الكنانة، فإذا أخمدت فقدنا كل شيء. - لن تخمد، وليست هي آخر سهم في الكنانة، إن الشجاع دائما يخلق من اليأس أملا؛ لأن اليأس فيه معنى الموت، ولأن في الشجاعة معنى الحياة، ادخلا وأخبراني بكل شيء، فقال نيكلسون. - إن الأمة أجمعت على الجهاد يا فتاتي، وإن الفرصة مواتية، فلم يبق من جنود الفرنسيين عدد يؤبه له، أو يستطيع الصمود أمام الكثرة والتضحية. - هذا صحيح يا أبي، ثم عادت إليها غريزتها النسوية، وما تشعر به المرأة من الخوف والإشفاق على من تحب، فقالت: وهل تحارب يا محمود؟ - سأكون في أول الصفوف، وإذا بترت يميني انتقل السيف إلى شمالي، إنني يا لورا كلما فكرت في أنك من أمة عزيزة مهيبة الجانب لا يداس لها عرين، ولمحت ما فيك من الاعتزاز بقومك الذين لا يحوم بخيال غاصب أن يقترب من شواطئهم، أدركني ما يشبه الحسد، ووددت أن أفخر ببلادي وقومي كما تفخرين. - ستفخر يا محمود ببلادك، وهي خالصة لأمتك لا يتحكم فيها غاصب، وإذا لم يتنفس لك العمر، فسيفخر التاريخ بك وبأمثالك المجاهدين، وأنت يا أبي ماذا سيكون شأنك؟ - سأكون بجانب محمود، وسأجاهد في سبيل مصر جهادا يحسدني عليه أبناؤها.
ثم قامت لتعد الطعام، وهي في خوف ووجل وإشفاق، وتمنت لو ظفرت بمحمود وبحب محمود في بلد هادئ أمين! وهل من العسير على القدر أن يحملهما معا إلى «بليموث» مقر أهلها، ومهد صباها، ليعيشا في ظلال الحب وادعين؟! وصورت لها الهواجس صورا مخيفة ملأت نفسها رعبا، إن محمودا مقدام مخاطر، وهو إذا حمي وطيس الحرب أدركه جنونها فقذف بنفسه للموت سمحا كريما، ولكن هذا الخلق هو الذي تحبه فيه، وهو الذي تعشقه من أجله، فكيف تذوده عما تحب؟ ولو أنه أطاعها لعاد في عينيها فسلا مسلوب الرجولة هزيلا.
وأشرقت شمس اليوم الحادي والعشرين من مارس سنة 1800م على مصر كلها أشأم شروق وأنحسه، وكأن حمرتها عند البزوغ دماء الشهداء الذين كتب عليهم أن تحصدهم المدافع وتنوشهم السيوف البواتر، وكأن أشعتها وهي تضرب في الأفق، أسباب المنية امتدت فجمعت أبناء مصر المساكين في شباكها.
خرج نيكلسون ومحمود في هذا الصباح، وودعتهما لورا والهة حزينة، تظهر الجلد بقدر ما تستطيع، فإذا غلبها الدمع قهقهت لتزعم أن دموع الحزن من دمعات السرور، خرجا فوجدا القاهرة في هرج وحركة دائبة، واستعداد للوثوب واستخفاف بالموت، وخلت البيوت من قطانها، واختلط الحابل بالنابل، وتسلح كل من يستطيع بما يستطيع: فمنهم من كان يحمل سيفا، ومنهم من كان يحمل بندقية، ومنهم من كان يلوح بعصا غليظة في الفضاء، ومنهم من تسلح بسكين ماضية، أما الأطفال والنساء: فملئوا حجورهم بالأحجار وساروا خلف الشجعان المجاهدين، يتنغمون بأناشيد نظمتها الفطرة الساذجة، فأذكت من نار الحماسة ما تعجز عنه بدائع الأشعار، وقد قسموا أنفسهم فرقا، وأقاموا المتارس في جميع أحياء القاهرة وبولاق، ووثب بعض الثوار وفي مقدمتهم نيكلسون ومحمود على معسكر الفرنسيين في ميدان الأزبكية كما تثب أمواج البحر الخضم على الشاطئ لتتكسر ثم تعود، وكان الفرنسيون - وقد امتلكوا القلاع والتلال حول المدينة - يصبون عليها وابلا لا ينقطع من النيران والقذائف، يدك أرجاءها دكا، وينشر الذعر والموت في كل مكان، وشمر الترك والمماليك عن سواعدهم وصالوا في المدينة وجالوا، وأخذوا يرسلون النجدات ويقوون العزائم، وبينما كان نيكلسون ومحمود عائدين إلى دارهما في أصيل ذلك اليوم؛ إذ لمح محمود الأعرابي الملثم، وهو يخوض بفرسه في جحيم المعامع ويصيح: إني أرى الجنة وقد فتحت أبوابها للمجاهدين، ولم تبق إلا ساعة من نهار لتنجو مصر وينجو أبناؤها، فهلم إلى الموت! هلم إلى الموت! فالتفت إليه محمود - وكانت حماسته قد حسرت من لثامه - فإذا هو زوج خالته السيد محمد البواب! فتملكه الدهش ووثب حتى أخذ بعنان فرسه وصاح: خالي ! أنت هنا؟ أنت بالقاهرة؟ إني لم أدع ركنا في المدينة إلا بحثت عنك فيه، ثم حبسه البكاء عن الكلام، فوثب السيد البواب إليه وعانقه، وارتفع البكاء والنشيج، ولغة الوجدان دائما أفصح من لغة اللسان، حتى إذا هدأت نفساهما قليلا، قال محمود في صوت خافت حزين: لم تستطع البقاء في رشيد يا خالي؟ - إن حياة الكريم ليست نفسا يذهب ويجيء، وليست طعاما وشرابا، وإنما هي شرف وكرامة، فإذا امتهن الشرف وضاعت الكرامة كان الكريم بين إحدى خلتين: إما أن يموت؛ وإما أن ينتقم، وقد جئت إلى القاهرة لأنتقم، ولأغسل غيظي بدماء أعدائي. - ذلك ما أفعله أنا الآن، وهذا ما سأموت في سبيله، وكيف جئت يا خالي؟ - غادرت رشيد ومعي مقدار من المال، فسافرت إلى بادية البحيرة، وكان لي بين عرب «الهنادي» صديق قديم هو الشيخ عويس معوض، فنزلت بخيامه وأخبرته بفاجعتي، فأظهر لي من حسن المواساة وكرم الضيافة ما هو خليق بالعربي الكريم، ثم غيرت زيي عنده، ورحلت مع ثلاثة من أتباعه، حتى وصلنا إلى القاهرة فنزلت بخان جعفر بخطة سيدنا الحسين، وعزمت على إخفاء أمري والجهاد في سبيل الله، حتى ألقى الله. - لا يا خالي، لا بد أن تنزل عندنا، ثم أشار إلى نيكلسون وقال: هذا صديقي وأخي في الجهاد الحاج محمد السوسي، انظر إليه فهل تعرفه؟ فحدق فيه السيد البواب طويلا وقال مرددا: أعرفه ...؟ أعرفه ...؟ وكيف لا أعرفه؟ إنه الخواجة نيكلسون تاجر الصوف والحرير برشيد، ثم طوقه بذراعيه في شوق وحب صادقين وهو يردد: كيف حالك يا خواجة نيكلسون؟ أو إن شئت: كيف حال الحاج محمد السوسي؟ ما كدت أعرفك لولا أن نبهني محمود، لقد تغيرت كثيرا يا نيكلسون في زمان تغير فيه كل شيء.
ثم ألح عليه محمود أن ينزل معه بدار نيكلسون فقال: دعني يا بني فإني أستأنس بوحشتي، وأرتاح إلى وحدتي، ثم انساب كما ينساب الهم فلم يريا إلا غبار جواده، وعاد نيكلسون ومحمود إلى دارهما، فأخبرا لورا بحوادث اليوم، وكان نيكلسون حزينا شديد التطير، وأخبرها محمود بما كان من لقاء زوج خالته، وبما كان يظهر عليه من الحزن وحب الانتقام، فعجبت لورا وقالت: السيد محمد البواب أصبح فارسا مغوارا؟ هكذا تخلق الحوادث الرجال!! وهنا قال نيكلسون لمحمود: أرأيت اليوم كيف يخدع المماليك الشعب المصري الأعزل المسكين. - كيف؟! - زعموا أولا أن الجيش الفرنسي انهزم بعين شمس، وكان كل ذلك كذبا وزورا، ثم إن نصوحا باشا كان يخدع الناس اليوم، حينما أرسل المنادين في أرجاء البلد يصيحون بأن يوسف باشا الصدر الأعظم للدولة العثمانية، سيصل غدا أو بعد غد بجيشه اللهام، ليستأصل شأفة الفرنسيين، والصدر الأعظم - كما أعلم علم اليقين - فر بجيشه إلى الصالحية ولن يعود. - تبا لهم من قتلة سفاكين!! والآن وقد لعق الشعب لجامه، وأطارت الثورة عقله، وأصبح من العسير أن يكبح، ماذا ترى يا نيكلسون؟ - أرى أن العاقبة غير واضحة، وأنه يجب علينا ألا نجبن أو نعتزل القتال، فلعل الله يحدث بعد ذلك أمرا! وقالت لورا: لن يصح شعب يقتله طبيبه، وهؤلاء المماليك يبنون من جثث المصريين جسرا لمأربهم: يفرون من الميدان عند أول صيحة، فإذا انتصر المصريون تسارعوا إلى انتهاب الغنائم، وإذا هزموا أو قتلوا فليس الأمر عندهم بذي خطر، وما شأنهم بفراشات ضعيفة جاهلة تهافتت على النار فاحترقت؟ وزفر محمود، وهز نيكلسون رأسه، وقام كل إلى سريره لينام إن استطاع النوم.
وهكذا توالت الأيام والثورة مشتعلة الأوار، وفي كل يوم يضعف المجاهدون، ويقوى الفرنسيون، واستمرت المدافع تصب حميمها على المنازل ليلا ونهارا، فهجر الناس بيوتهم، وتهدم أكثر من نصف المدينة، وبذل المصريون جهد اليائسين: فأنشئوا معملا للبارود في بيت قائد آغا بالخرنفش، ومصنعا لإصلاح الأسلحة وصب المدافع وجمعوا كل ما استطاعوا الحصول عليه من حديد ونحاس وخشب، ولكن كل ذلك لم يغن فتيلا أمام قوة الفرنسيين الجبارة، ومما زاد الحال سوءا حصار المدينة وامتناع وصول الأقوات إليها، فجاع الناس، وانتشرت الأمراض، وخرجت النساء مولولات صاخبات باكيات، يصورون الهزيمة والذعر، والمسغبة وضيعة الأمل.
وبينما كان الفرنسيون في اليوم الثاني عشر من إبريل يحاولون احتلال كوم أبي الريش بالفجالة، بقيادة الجنرال روبان؛ إذ رأى محمود العسال زوج خالته فوق جواده وهو يصول بين الفرنسيين غير هياب، ورصاص بنادقهم يبني فوقه ظلة من الموت، فذعر محمود وتقدم لإنقاذه، ولكنه قبل أن يصل إليه رآه يترنح فوق فرسه، وقد أصابته رصاصة في العنق، فأسرع إليه فاختطفه من سرجه، وحمله فوق كتفيه، وما كاد يسير قليلا حتى أصابته رصاصة في فخذه، فسقط على الأرض بحمله، وفي هذه اللحظة وثب نيكلسون فجر الرجلين إلى مكان أمين، وكان محمود شديد التألم من جرحه، أما السيد محمد البواب فكان يجود بأنفاس قصار، ويردد كلمات أقصر من أنفاسه ويقول: الحمد لله! قتلت خمسة هذا اليوم! شفيت نفسي، وأطفأت غلي، ما أهون الحياة في سبيل الشرف! ثم فاضت روحه شهيدا كريما، فاكترى نيكلسون حمارين واتجه بالرجلين نحو داره، فلقيته لورا مذعورة، وجاء بعض الجيران فحملوا الجريح والقتيل، وكانت الشمس قد غابت في الأفق، فشمل القاهرة ظلام دامس، يزعجه قصف المدافع، وندب الثكالى، وأنات الجرحى، وصياح الأطفال الخائفين الجائعين.
Shafi da ba'a sani ba