قال: أتعرف الكنيسة جيدا؟
قال: وأي كنيسة يا مولاي؟
قال: كنيسة النبي يحيى التي جعل المسلمون نصفها مسجدا، وهي بجانب القصر.
قال: نعم أعرفها، وقد كنت في صباي إذا جئت مع أهلي إلى دمشق صليت فيها ونحن يومئذ على دين النصرانية مثل سائر أهل كندة.
قال: لا يخفى عليك أن أبنية الجامع والكنيسة والقصر متلاصقة متجاورة، فعليك أن تدخل الكنيسة، ولا حرج عليك في الدخول، ثم حاول أن تبقى بها إلى الليل، فإذا أمنت العيون فامش إلى جانب المحراب فتجد هناك قطعة من الرخام على هيئة أسد، فارفعها، وستجد تحتها سلما قصيرا يؤدي إلى سرداب تحت الأرض، فامش فيه متحسسا الجدار بيدك اليسرى، إلى أن تصل بعد دقائق إلى باب صغير يستطرق إلى الحمام، فإذا وفقت للوصول إليه وعبد الرحمن به فحل قيوده وعد به في نفس السرداب، واجعل يدك اليسرى دليلك أيضا، وسيطول بكما المسير، ولكن لا تخف، فإنكما ستصلان إلى مكان خارج سور المدينة، فإذا نجوتما فتعاليا إلي.
وكان الناسك يتكلم وعامر يصغي لقوله، وكأنما خامره الشك صحة كلامه، وخاف أن يعتمد على نصيحته فلا يجد سردابا ولا سبيلا وتكون الفرصة قد ضاعت.
ولحظ الناسك ذلك منه فقال: لا تشك يا عامر فيما قلته لك، ولا تظن قولي رجما بالغيب، إني أعرف المكان جيدا، وأمثال هذه السراديب كثيرة في دمشق، وأكثرها كان أقنية للماء في عهد الروم ثم اعتاضوا عنها بأقنية أخرى جديدة فظلت خالية، ولا أخفي عليك أنك قد تلقى مشقة كبيرة في اجتياز مثل هذا السرداب؛ لأنه مهجور من زمن قديم، وربما انسد بعض أجزائه أو تهدم، ولذلك قلت لك إن هذا العمل يحتاج إلى شجاعة وإقدام.
فاطمأن بال عامر وتحقق وجود السرداب، ولم يعبأ بما يحول دون المسير فيه، ونهض فقبل يد الناسك وهو لا يري وجهه، فقبل الناسك رأسه ودعا له بالتوفيق، فاستبشر عامر بدعائه؛ لإيمانه بكرامته، وأسرع إلى دمشق وسار توا إلى الكنيسة وهو يعرف مدخلها، ويسهل عليه التظاهر بالنصرانية لأنه قريب العهد بها. •••
وصل عامر إلى الكنيسة ساعة الغروب، فاشتم رائحة البخور وسمع أصوات المنشدين وهو لا يزال في صحنها، فعلم أن الناس في الصلاة فدخل في جملة الداخلين، ولم ينتبه له أحد؛ لأن كثيرين من أمثاله من نصارى البادية، وأكثرهم من عرب غسان، كانوا إذا نزلوا دمشق دخلوا كنائسها وسمعوا الصلاة فيها، وكان الغسانيون قد أسلم معظمهم على أثر الفتح. إما فرارا من الجزية وإما تزلفا إلى المسلمين، وظل بعضهم على النصرانية وأقاموا بالبلقاء وحوران، وكانوا يأتون دمشق لشراء ما يحتاجون إليه من أسواقها، ويدخلون كنائسها ليتبركوا بالصلاة.
فلما دخل عامر الكنيسة لم يستغرب أحد دخوله، فالتمس مكانا منعزلا انزوى فيه، بينما الصلاة قائمة والأناشيد تصدح والبخور يتصاعد، وراح يفكر في حاله وما هو مقتحمه من الخطر الشديد، ولم يكن يبالي بالخطر لو أنه كان واثقا من نجاح مسعاه.
Shafi da ba'a sani ba