ولم يكن أطول من ذلك النهار على سلمى، فلما دنا الأصيل ولم يطمئن بالها أخذت تلوم نفسها وتقرع عامرا على التقاعد عن اللحاق بعبد الرحمن، وهي إلى الحين لم تذق طعاما، فخارت قواها، ولكنها لم تشعر بالجوع لشدة قلقها.
وبينما هي غارقة في هواجسها إذ لمحت فارسا يركض فرسه بين الأشجار بالقرب من باب البستان، فخفق قلبها والتفتت إلى عامر فإذا هو ينظر أيضا إلى ذلك الفارس وقد علته البغتة، ورأت رئيس الدير قد خرج من عليته مسرعا وهو يصلح عباءته وينظر إلى باب البستان، ثم نادى القيم وقال له : ابعث راهبا ليفتح الباب؛ لأني أرى عبيد الله بن زياد قادما، لعله جاء لينبئنا بقدوم الخليفة.
فلما سمعت سلمى اسم ابن زياد ارتعدت فرائصها، ونظرت فإذا هو قد وقف بالباب، ثم هرول بعض الرهبان ففتحوا له، وهمت بمخاطبة عامر فإذا هو يقول لها: انزلي يا سلمى إلى غرفتك واستتري هناك وأنا أبقى هنا لنرى ما يكون من الأمر، فأرادت أن تستمهله فألح عليها بالنزول ووعدها بأن يبقى هو في انتظار رسالة عبد الرحمن، فنزلت مسرعة واختبأت في غرفتها وظل عامر على السطح.
وكان الرئيس قد نزل إلى الباب واستقبل ابن زياد، ووقف معه برهة وهما يتكلمان همسا، ثم صعدا إلى السطح، وقبل أن يصلا فاحت رائحة المسك، فعلم عامر أنها رائحة عبيد الله بن زياد؛ لأنه كان مشهورا برائحته الطيبة، ولبث عامر جالسا وقد ندم على بقائه هناك، ثم ما عتم أن رأى الرئيس مقبلا نحوه وعبيد الله إلى جانبه، فوقف له وحياه، فرد عبيد الله التحية هاشا والرئيس يبتسم كأن في نفسه قولا يهم به، فتجاهل عامر وتأدب في موقفه، فدعاه ابن زياد إلى الجلوس، وأمر الرئيس بطنفسة فرشت لهم على حصير فجلسوا عليها، وعامر يعجب بما يبدو من مظاهر الترحاب، ونفسه تحدثه بظنون كثيرة حتى لم يبق له صبر على استطلاع السبب، وهو يخاف أن يكون فيما سيسمعه بأس على عبد الرحمن.
فلما استتب بهم المجلس، جيء إليهم بالفاكهة وكئوس الأشربة فأكلوا شربوا، ثم بدأ الرئيس الكلام قائلا: لعل مولانا الخليفة قادم إلينا فنتأهب لاستقباله.
فضحك عبيد الله وهو يصلح حمائل سيفه وقال: لا أظن مولانا يمر بكم اليوم.
قال الرئيس: أعائد هو إلى دمشق؟
قال: نعم إنه عائد الليلة.
قال: ولماذا عجل بالرجوع من صيده، وقد كنت أحسبه لا يعود قبل أسبوع؟
قال: إنه تشاءم من سفرته هذه فآثر الرجوع سريعا.
Shafi da ba'a sani ba