فتنهد عامر وقال: نعم يا بنيتي إني أعرف مدفنه، وأظن رئيس هذا الدير يعرفه أيضا. ألم تسمعي إشارته إلى ذلك العمل الفظيع؟
قالت: سمعت ولم أظهر شيئا؛ لأننا نريد كتمان أمرنا عن كل إنسان لنرى ما ينتهي إليه حالنا.
وكان عبد الرحمن ما يزال يخطر في الغرفة وقد حل عقاله وأرخى الكوفية على أكتافه وراح يردد بصره في سلمى وهي تتكلم معجبا بحميتها، فلما قالت ذلك أجابها: اعلمي يا سلمى يا بنت عمي وخطيبتي ويا أملي ويا منتهى أربي، اعلمي رعاك الله أني لا يهنأ لي عيش حتى أنتقم لأبيك المدفون في هذا المرج، مرج عذراء، فإذا وفقت إلى ذلك فقد حق لي أن أكون لك وتكوني لي كما أوصى أبوانا وهما من الأحياء، وإذا لم أوفق فلا آسف على حياتي.
فصاحت وقد كاد الحياء يغلبها وهي تحاذر أن ترفع صوتها خوف الرقباء: حياتك أعز حياة عندي، وما معنى بقائي إذا أنت أصبت بسوء! فكيف تلومني إذا لحقت بك؟ وأما عمنا عامر فإنه لنا بمنزلة الأب وقد انقطع عن العالم من أجلنا، وهو رفيقنا في السراء والضراء.
وكان عامر مع شدة إعظامه الأمر لا يمل النظر إلى سلمى متتبعا كل حركاتها وسكناتها وهي تتكلم، ثم ينظر إلى عبد الرحمن، ويعجب بما أودعه الخالق فيها من الخلال النادرة. •••
وأدرك القارئ من خلال الحديث أن سلمى هي ابنة حجر بن عدي قتيل مرج عذراء، وأن عبد الرحمن ابن عمها وخطيبها، وعامرا كفيلهما.
وتفصيل ذلك أن سلمى ولدت في الكوفة قبل مقتل أبيها بثمان سنوات، فعهد في أمرها إلى امرأة عامر ترضعها عند زوجها في البادية، وكانت تلك عادة المتحضرين من العرب، إذا ولد لهم مولود عهدوا في رضاعته إلى بعض نساء البادية، فيربى في الخلاء حيث الهواء الطلق والعيش الرغيد، فيشب أولادهم أصحاء البنية أشداء ، فربيت سلمى في حجر عامر ثماني سنين لم تر فيها أباها. فلما سيق إلى مرج عذراء سنة 51 للهجرة مع آخرين كانت أمها قد ماتت، وكان آخر ما قاله حجر أن أوصى عامرا بالعناية بها وأن يتخذها ولدا له، وأن يزوجها بعبد الرحمن، ولكن بعد موت معاوية بن أبي سفيان، فظلت في حجره حتى شبت، وكان عامر كثير التردد على الشام للتجارة منذ صباه، وبنو كندة ما زالوا على النصرانية، فكان إذا جاء الشام أقام بها حينا يتردد الأديار والكنائس يجالس أهل المعرفة فيقصون عليه شذرات من تاريخ اليونان وما يتعلق به من تواريخ الشام وغيرها، وكان يحفظ كل ذلك ويتفهمه حتى عد بين رهطه من أحسنهم معرفة وأوسعهم اطلاعا على التاريخ، وآنس عامر في سلمى ذكاء ورغبة في استطلاع أقاصيص الأولين، فكان يقص عليها كل ما اتصل به من أخبار الفرس والروم وما بينهما.
وكانت كثيرا ما تسأله عن أبيها فيكتم عنها خبر مقتله، حتى اتفق منذ عامين أن ذكر الناس خبره وهي تسمع، فاستطلعته الحقيقة فباح لها بها، فثارت حميتها، وهاجت عواطفها، وعزمت بينها وبين نفسها على الانتقام.
وأما عبد الرحمن ابن عمها فقد ربي معها في تلك البادية منذ كانا طفلين على أن تكون زوجة له، وقد مات أبوه وهو طفل فكفله عامر، فلما بلغ أشده وسمع بمقتل عمه حجر وما أعظمه الناس من أمره عزم على أن يثأر له، وكان كسائر بني كندة وغيرهم من دعاة أهل البيت لا يرون لمعاوية حقا في الخلافة، فشب هو وابنة عمه على كره الأمويين والتشيع لآل البيت، وكان معاوية ما زال حيا والناس يتوقعون موته ليبايعوا الإمام الحسين، فصبر على ما في نفسه، وقد نزل هو وعامر الحجاز ومعهما سلمى وأقاموا بالمدينة في منزل الإمام الحسين زمنا ينتظرون ما يأتي به القدر.
وقضت عليهم الأحوال قبيل وفاة معاوية أن يعودوا إلى الكوفة، فبلغوها وقد مات معاوية، وجاء الخبر بمبايعة يزيد فعظم ذلك على عبد الرحمن، وأقسم لا يفرحن حتى يقتل يزيد، ووافقته سلمى على ذلك، وعامر لا يبدي اعتراضا، ولكنه لم يكن يحسب أن عبد الرحمن سيقدم على ذلك لتوه. فأصبح عبد الرحمن ذات يوم فودع سلمى وعامرا، وأخبرهما أنه عازم على السفر إلى دمشق ليبر بقسمه، فاستمهلاه وهو لا يصغي، وأخيرا ودعهما وخرج يريد دمشق، وفي مساء يوم سفره تعاظم بلبال سلمى، فلم يهدأ لها بال حتى لحقت به هي وعامر بحجة الاتجار بالتمر، فالتقيا به في القافلة قبل الغوطة بقليل، فساءه ذلك ولامهما على مجيئهما، ولكنه لم ير حيلة في إرجاعهما، فجاءوا معا إلى الدير كما مر، وبعد أن دار ما دار بينهما من الحديث قالت سلمى: لا بد لنا من تدبر الأمر بالحكمة؛ أما قتل يزيد بين رجاله وجنوده فتهور لا نرضاه لك ولا هو مستطاع. فهل من رأي صائب رأيته في الوصول إلى الغاية؟
Shafi da ba'a sani ba