وذهبنا.
غير أني لم أكن أحس برعشة من هو على أهبة أن يلقى بطلا أو رجلا عظيما.
وترجلنا من السيارة إلى مسكن متواضع على قارعة الطريق، ومشينا إليه، فإذا على مدخله امرأة تعلق الغسيل، حيتنا بعربية مكسرة، ولاح وجه فوزي القاوقجي من الداخل؛ فأيقنت أن السيدة زوجته الألمانية.
يقال إن لكل رجل وجه حيوان، فهذا يشبه الثور، وذاك الفهد أو الثعلب، وآخر الأسد. وجه فوزي القاوقجي كما أطل علي وكما يوحي إلي هو وجه جواد يحمحم.
وجلسنا حول طاولة - نحن الثلاثة - وكان هو يلبس الشورت (البنطلون القصير)، وينتعل خفين، هالني أن رأيت فيهما قدمين مسطحتين غير متقوستين، وتبينت جسده فعجبت أن ليست عضلاته كما يتوقع من قرأ أنباء قتاله. ما هو بمترهل، ولكنه ما هو من القوة الجسدية بحيث يبعث الخشية أو يثير الإعجاب، ولكن صدره مرتفع فسيح عتليت، وليس في وسعك أن تصف الأنف أو العينين أو الوجه أيا على حدة؛ فرأسه - رأس الجواد المحمحم - هو وحدة كلاسيكية يوحي إليك أنه في طليعة موكب يسير نحو آفاق لا تحد.
وكان أولاده منتشرين هنا وهناك، وتألمت أن ليس بين أيديهم دمى يلعبون بها، بل إن «أسامة» - وهو في الخامسة - كان يرفه عن نفسه بأن يغير على الرمال فيبودر بها وجهه، ثم يهرع نحو حنفية الماء فيغسله متطلعا إلينا منتظرا أن يسمع كلمات الإعجاب، وهو في مفاجآت ظهوره واختفائه، وكره وفره، كأنه حيوان صغير يظهر من دغل ويختفي في دغل. وأما «مروان» ففي وجهه أرستقراطية هادئة، ولعله برم بأحاديثنا، وليس بين يديه ما يشغله، فتودد إلي بأن وخزني على كتفي متحديا مداعبا.
وكان خوفي - أكبر خوفي - أن يستل فوزي القاوقجي مسبحة من جيبه، وأن يغرقني بالطرائف والتندر، وبالنكات المحفوظة، ولكنه لم يفعل.
وبعد أن رزت محدثي بعيني رحت أحاسب نفسي: إنه لحقير من لا يرى العظيم إلا حين يرتدي هذا مظاهر العظمة، كتاب الحياة تقطع عباراته كلمة «لو». ألم يكن من المعقول أن يكون هذا الجالس «بالشورت» إلى جانبي اليوم، القائد لجيش موحد واحد، سوري (سوريانا)، وأن تكون تماثيله، على الحصان الأبيض التقليدي، في باحات حيفا ويافا ودمشق وعمان والقدس وبغداد وبيروت؟
إن جليسي على طريق «سان ميشال» هو الرجل الذي شربنا أنخابه في «الفلبين»، وتبوأت صدور الصحف أنباء بطولاته، وتغنى بغماره المقاتلون، أفلا يوحي الخشوع إلا حين يلبس بزته العسكرية، وتلمع النياشين على صدره؟
ولماذا نحن نتوقع في الأبطال التفوق الجسدي؟ في يقيني أنه لو ركب حافلة الترامواي هاني بعل، ونابليون، وإسكندر المكدوني، وعنترة، واللورد نلسون، لصعب تمييزهم عن مصطفى منتور الطبش، أسعد تيول، شمدص جهجاه، بندر شنديب، والحاج قعفر طيون الطهشناوي.
Shafi da ba'a sani ba