وكرت الشهور، وكرت الأعوام، وحياة «أم حنا» خنازير تحبل وتلد وتباع، وسمك مقدد يأتي في باخرة بالصناديق، ويباع بالكيلو والغرامات، وفي قعر صندوقها يتجمع المال ريالا بعد ريال، وذهبية بعد ذهبية، وشيكا بمئتين وأربعة وستين ريالا موقعا من يوسف رستم، ومعادا من البنك في مانيلا ومطبوعا عليه: «أن ليس في المصرف مئونة لتغطية الشيك، وأن صاحب الشيك السيد يوسف رستم أقفل حسابه في اليوم الذي فتحه.»
أما المرأة فقد غلبت عليها - بسبب الشك المرفوض - الحسرة لا النقمة، واخترعت لضيفها ومواطنها الأعذار، وبقي ضيفها طيفا مر بها في لمحة من العمر مستحبة، وهي بعد أن أوغلت في العمر كثرت صلواتها، وكثر تردادها على الكنيسة، وعمق تعبدها، وكانت في كل يوم تضرع لله أن يوفق يوسف رستم، ويدر عليه الثروة، وأصبح كل همها في الحياة وحيدها؛ أن ينشأ مثقفا مهذبا ليصيب نجاحا في الحياة. وأقبلت على تربيته بحمية الأم تريد أن تسجل بابنها النجاح الذي خابت بتحقيقه لأبيه. وما خيب الابن آمالها، فكان مبرزا في دروسه محبوبا محترما، عثليت الجسد. وتمكنت أمه بجهدها واجتهادها أن توفر له الثقافة من المدرسة الابتدائية إلى الثانوية حتى دخل الجامعة في مانيلا، وأنهى سنتين في الحقوق، وإذ هو في الفصل الثاني من السنة الثالثة فاجأ حنا أمه برسالة يقول لها فيها إنه أحب فتاة جامعية، وإنهما سيتزوجان بعد شهر، ورجا أمه أن تأتي لمانيلا فتحضر عرسهما، وألح بالدعوة.
أما الأم فشعرت بما تشعر به كل أم من فرح بزواج ابنها، وأنانية؛ يحزنها أنه سيصبح وليا لامرأة سواها، ولكنها عزمت على أن تلبي الدعوة، فباعت الخنازير والسمك المقدد، واحتملت كنزها مما وفرته من مال، وسافرت إلى «مانيلا».
وهنالك لقيت ابنها وخطيبته، وعلمت بشيء من الذل أن الفتاة فقيرة مثلها، وأن ابنها في شيء من الحيرة، فهو لا يقدر أن يبتاع لخطيبته خاتم الزواج ولا أثواب العرس.
غير أنها في الصباح التالي عدت ثروتها من جديد، فلم تجد نفسها معدمة؛ إذ بلغ مجموع نقودها ما يناهز أربعماية ريال، وهذا مبلغ محترم، بل هو ثروة؛ فلبست الأم أجمل أثوابها، وزينت نفسها، ونزلت إلى سوق الصاغة، وقصدت إلى المحل الأكبر والأفخم؛ فدخلته وجالت بعينيها فوقع بصرها على خاتم زواج من البلاتين، أبيض صيغ بشكل قلب، وفيه ألماسة بيضاء مزرقة مضلعة ما اشتهر أنه «قطع باريس»، وخط على العلبة المخملية الخضراء أن الثمن 600 ريال، فلما وقعت عيناها على الرقم - 600 - وثب قلبها إلى فمها وغصت. وسألت البائع أن يهديها إلى صاحب المحل، فأجابها وقد تحقق من شكلها أنها ريفية: «هنا السعر محدود لا مساومة.» وتحرك صاحب المحل من خلف الطاولة كهل بدين مترهل مغبر الشعر، فواقفت عيناه عينيها، وماج في نفسها شيء دهشت له فحدقت بصاحب المحل والتفتت إلى الاسم المنقوش على الطاولة، فإذا هو: «خوسه أنطونيو روستمبرج».
فتقدمت إليه مرتعشة الصوت محمرة الوجه، وقالت له بالعربية: «أتذكرني؟» فتطلع بها وابتسم، وخاطب أحد مستخدميه: «ماذا تقول هذه المرأة؟ بأي لغة هي تتكلم؟» ولكن الأم لم تجزع، بل فتحت منديلها، وانتزعت ريالاتها، وخاطبته بالإسبانيولية: «أريد أن أشتري هذا الخاتم، هذه 336 ريالا، وهذا الشيك ب 264 ريالا»، فاستوى يوسف في كرسيه، وابتسم كأنه تمثال من ظفر في الحياة وزهو، وتطلع في المرأة، واستأنف كلامه بالإسبانيولية: «هذا الشيك عملة مزيفة ، وبضاعتنا أصيلة يا سيدتي ، نحن لا نبيع ألماسا أصيلا بشيكات زائفة، بالإسبانيولية نسمي من يقبل هذا الشيك «طوربي» (أبله). ما ترجمة هذه اللفظة باللغة التي تتكلمينها؟» فأجابت المرأة وقد جمدت بدورها تمثالا من كبر: «لقد تركت بلادي منذ سنوات عديدة، لا أذكر اللفظة التي تصف من يقبل هذا الشيك، ولكن الذي يوقعه نسميه «خنزيرا»!»
في المرحوم الأستاذ بولس الخولي
أمام صمت الموت، أي لسان هو فصيح؟
هذه العتمة التي ينساب إليها أحباؤنا، وغير أحبائنا، أي عين نفذت عبر ظلامها؟
هذا الستار الذي ينسدل في منعطف الطريق، قد اتخذه البعض حائطا يقيمون عنده مبكى ومناحا، وقال آخرون: هنا البدء، وغيرهم صاح: هنا النهاية، ووجم سائرهم: «نحن حيارى.» فأما الذين حدقوا بالظلمة مؤمنين، فقد رأوا فيها الأنوار المتلألئة، وهزأ الكافرون ضاحكين أن الإيمان خوف، وأن ليست بأنوار تلك التي تتلألأ في الظلمة، بل هي - كذا سخر الملحدون - انعكاس نظرات الذين حدقوا وحدقوا فارتدت أبصارهم شعاعا عن عتمة لا تخترق.
Shafi da ba'a sani ba