أجاب: «لا أدري»، ولكن الذي سأعمله حين أرى الجوز على الأشجار هو أن أتعرى وأرقص بينها.
وحين أثمرت الأشجار لم يتعر شاكر ولم يرقص؛ لأنه كان قد مات.
على كل حال لم أقع بغرام نخلة شاكر عند أول نظرة، ولكني عشقت أخاه الذي أتى بعد قليل، واسمه شكري، وهو لقصره واعوجاجه، وللكاسكت الذي يلبسه كأنه «جوكي» يتحدب على غير حصان، ولولا بعض الشتائم، لما عرفت أنه يتكلم العربية. وفغر فاه يتحدث لي ففهمت منه أنه خسر أمواله وأسنانه منذ سنين، وأنه سيصبح مليونارا بعد قليل. «طول بالك على شكري.» ثم انهال علي بنصائح أبوية خلاصتها أن كل الناس كلاب غشاشون. ولما أردت أن أستودعه لأذهب إلى «دانسالان»، وهي بلدة جبلية على ضفاف البحيرة - حيث ابتلع الزلزال قريتين - نصحني بقوله: «السفرة بعيدة، ساعتين بالأوتوموبيل، الناس كلاب قد يسرقون شنتاتك، انتظرني عند بائع البوظه هناك. في يدك كتاب، هيئتك تحب القراءة، كل المؤلفين كلاب، خذ بوظة، واقرأ ربع ساعة أعود إليك. عندي أعظم بوسطة ركاب ماركة «هوايت» أعظم ماركة في الدنيا. أركب أنا وأنت قرب الشوفير كالملوك، وندير قفانا إلى الركاب - الكلاب - بنصف ساعة نصل إلى «دانسالان»، انتظرني عند الكلب بائع البوظة، رايح شوف الكلاب.»
وكان الوقت صباحا، وقد استهوتني شخصية شكري، فدخلت إلى دكان البوظة، ولم يطل الأمر حتى أقلعت الباخرة متابعة سفرتها، وتفرقت السيارات، وخلا الشاطئ من الكلاب، وبقيت أنا وبائع البوظة وكتابي وشنتاتي.
وحوالي الساعة الرابعة من بعد الظهر سمعت هديرا وخشيشا وصفيرا، ودويا وحرتقة، وسط غيمة من غبار وبخار زيوت، فإذا شكري يبرز من الغيمة متبوئا شيئا سماه بوسطة، احتشد فيها نحو من ستين راكبا أكثرهم «موروز» - مسلمو الفلبين - فوق أكياس من الرز - لا أذكر عددها - ودعاني، من غير أن يعتذر عن تأخره، إلى الجلوس قربه في المقدمة إلى جانب الشوفير حيث احتشد ثلاثة سواي. لا أعلم إن كان ذلك الكميون «هوايت»، ولكن أكبر ظني أنه أول كميون أنتجه أول مصنع، وكان ذلك على سبيل التجربة.
على أننا لم نخرج من البلدة ونبدأ بالصعود حتى شعرت بزهو كثير؛ إذ بدأت وشكري بأغنية «هيهات يا بو الزلف»، وكان الركاب يردون علينا بأغانيهم الحربية.
ورحنا نصعد على طريق واسعة من «الباتون» بين أحراش كثيفة، وقد اعترض سبيلنا مرتين قطيع من القرود، يعبرون إلى الغابة غير مذعورين، وكنا نرى على جانب الطريق بعض القردة متعلقة بأذيالها تتأرجح، تتطلع بنا وتهذر.
واستمر سيرنا نحوا من ساعة، وإذ ب «أعظم بوسطة في الدنيا» تقف وتأبى المسير، وراح الشوفير يستثير تفكيره، فيحك قفاه ويبصق.
ووجدت أن شكري لم يصطحب آلات التصليح، فلم يعد لهذه الأزمة إلا الصراخ والشتائم، فكأنه أحد قادة الشعب عندنا يبحث في الأحلاف. وطال وقوفنا، وعلا الشجار بين شكري والركاب، وانتهينا إلى تدبير، فمشى الركاب إلى المزارع المجاورة، وبقي الشوفير في البوسطة يحرسها، ومضيت أنا وشكري إلى مزرعة قريبة يملكها أميركي اسمه «روجرز» فضفناه، وحصلنا منه على طلبية بثمانمائة ريال.
وفي الصباح أرسلنا في طلب سيارة، وودعت شكري، ومضيت إلى «دانسالان» البلدة الأخاذة على البحيرة.
Shafi da ba'a sani ba