فقلت له متمهلا وأنا أتفرس به جيدا لئلا تفوتني ملاحظة ما يطرأ عليه من التغيير: لم قتلت رجلا من مضي ثلاث سنوات في أحد منازل شارع هوراس؟ فنظر إلي بتعجب وكأني به يتساءل كيف عرفت ذلك، ثم صرخ قائلا: هل بك من جنون؟ - أصغ. في الساعة التاسعة من مساء العشرين من شهر آب سنة (... 176) في شارع هوارس قد طعنت صدر شاب بخنجر، وللحال سقط قتيلا في غرفة اجتمعت بها مع سنيري واثنين آخرين.
فأحدق برهة دون أن ينطق ببنت شفة، ثم تقدم نحوي وقبض على ذراعي، فظننت بادئ بدء أنه يقصد بي سوءا، فاستعديت المدافعة عن نفسي، ولكني أدركت بعد قليل أنه يبتغي التفرس بي فقط، فقلت له في نفسي: ألم تعرفني بعد؟ وهل يغير العمى الإنسان إلى درجة لا يعود يعرف بها بعد أن يعود إليه بصره؟ ولكن لا، فإنه قد عرفني أخيرا لأنه ما لبث بعد أن حدجني بأبصاره أن همس قائلا: الويل لهم لم لم يدعوني أتمم عملي وقتئذ؟ ثم جعل يخطر في أرض الغرفة طولا وعرضا، وبعد أن سكن جأشه قليلا وقف أمامي ونظر إلي كأنه غير مبال بتبرؤ نفسه، وقال: لقد صدقت فيما نطقت يا مستر فوكهان، فأنا قاتل، نعم قاتل، ولا لزوم بعد للإنكار، فعلى ما يظهر لي أنك مطلع على كل شيء. فاعلم يا صهري العزيز أني لم أقتل هذا الشقي إلا لأنه كان محبا لزوجتك وشقيقتي، وإذ علمت ذلك تهيج الدم الشريف في عروقي ولم أتمالك أن قتلته، نعم قتلته بحضورها وبمساعدة سنيري خالها وتركتها تندبه كل أيام حياتها. فهل علمت الآن معنى الكلمات التي ألقيتها إليك على طريق جينوى من أنك سوف تجني ثمرة اهتمامك بمعرفة ماضي حياتها؟
ولما أتى على هذه العبارة هجمت عليه قاصدا إعدامه، ولكنه كان قد استعد لذلك ودبر طريقا للهرب إذ جعل مكانه قرب الباب، وهكذا فر من أمامي وهو يقول: إلى الملتقى يا مستر فوكهان، فهذا ليس وقت الانتقام.
فصرخت: اغرب عن عيني يا شقي، فكل ما فهت به كذب وبهتان.
وبعد ذهابه شعرت أن هواء الغرفة قد فسد من أنفاسه الدنسة، فهرعت لمخدع زوجتي وجلست قرب سريرها، وأصغيت لكلماتها المتقطعة، فإذا هي لم تزل تردد أحب الألقاب لذلك الشخص الذي أحاول معرفته والذي نسب إليه ماكيري تلك الكذبة الفظيعة.
فلا شك أن هذه حيلة عمد إليها ليبرئ ساحته أو لينتقم مني لأني تزوجت بولينا بينما كان يحبها حسب زعم سنيري، ولكن كيف كان الحال فلا يمكنني أن أطرد كلامه من ذهني، وسوف أتجرد من الراحة والسلام كل أيام حياتي. آه، من لي فيطلعني على حقيقة هذه الأسرار الغامضة ويخلصني من عذاب أليم! انهضي يا حبيبتي بولينا وانزعي عنك جمودا يدمي فؤادي واقرني جمال هذه العيون بنظر صادر عن تعقل وحكمة ومني علي بقولك: «إني بريئة.» فأسكب إذ ذاك دموع الفرح على أقدامك، وأكون من أسعد البشر.
الفصل العاشر
في البحث عن الحقيقة
ومضى علي عدة أيام وأنا أتقلب على فراش الأحزان لا يهنأ لي عيش ولا يهدأ لي بال، وأخيرا عولت على اللحاق بسنيري لأني فكرت أنه الشخص الوحيد الذي أقدر أن أستوضح منه هذا السر الذي كما أظن لا يعلمه سوى ثلاثة أشخاص منهم ماكيري الشقي الذي بارح إنكلتره ثاني يوم وقوع تلك الحادثة، وتيريزا التي لم تقع عيني عليها منذ اقترنت ببولينا، وسنيري القاطن سبيريا، فمهما كانت المسافة بيني وبينه شاسعة وأتعاب السفر شاقة لا بد لي من الذهاب والاجتماع به فأستطلع منه ما أمكن ولا أرجع هذه المرة خاسرا، والويل له إذا أصر على الكتمان.
فبعد أن فكرت طويلا بهذا السفر رأيت به من الصعوبات يرجعني عن عزمي ويثبت لي أن النجاح مستحيل، ولكن ما العمل وكيف يمكنني احتمال هذه الحال، وكلمات ماكيري تهشم قلبي بأنياب أحد من السنان، فلا بد لي من مقاومة المصاعب، وأخيرا سوف تبدد كلمات الطبيب عن عيني غيوم الشك، فإما أن تدحض دعوى ماكيري أو تحكم علي الشهامة بانفصالي عن بولينا إلى الأبد.
Shafi da ba'a sani ba