وبينما أنا كذلك إذ تحركت وفتحت عينيها ثم نظرت إلي. ولا يمكني أن أصف خفقان قلبي عندما عاينت في نظرتها نورا لم أره قبلا.
الفصل الثامن
التذكار
لقد أفاقت بولينا وجلست على فراشها بهيئة مغايرة لما كانت عليه قبلا، وجعلت ترسل أسهم نظراتها الحادة مخترقة ما حولها من الجهات، ثم تململت وهي تصعد الزفرات وقطبت حاجبيها، فناديتها باسمها وكررت ذلك مرارا قصد استلفات أفكارها وملافاة أحزانها واضطرابها، فلم تع لكلامي ولم تنتبه لوجودي في الغرفة، ثم نهضت بغتة وخطرت نحو الباب فجذبتها بلطف من ذراعها كي تعود إلى فراشها وتأخذ لنفسها بعض الراحة، ولكني ألفيت بها من القوة ما أرجعني بالخيبة، فرجوتها بأرق عبارة أن ترجع عن قصدها، ولكن لا حياة لمن تنادي، فتركتها وشأنها تسير حيث شاءت، وأنا أتبعها لأرى أخيرا ماذا يكون من أمرها.
فزايلت الغرفة وحينئذ تبين لي أنها تقصد الباب الخارجي، فلبست للحال قبعتي وأخذت برنسا ووضعته على كتفيها فاقتبلته دون ممانعة، وسارت مسرعة وأنا أتبعها حتى أفضت إلى الزقاق، وعند ذلك أوصدت الباب وأخذت المفتاح بيدي ولحقت بها، فطافت بي شارع ويل بول ثم عطفت إلى الجهة اليمنى منه، وابتعدت مسافة نصف ميل، وفي أثناء ذلك كنت أعيد عليها التنبيه وأفهمها أن ذهابها ليس بذي أهمية، ولكني كنت كمن يضرب في حديد بارد. وإذ تجاوزنا الشارع الأخير عرجت على زقاق فسيح فلم نسر به طويلا حتى وقفنا تجاه قصر شاهق قد أرخى الظلام عليه سدوله فلم أر فيه نورا البتة، إنما هيئته تدل على أنه مهجور، فحققت النظر في بنائه على مصباح خفيف ينير الطريق، فوجدته محتويا على ثلاث طبقات كثيرة المداخل والمخارج، فبعد أن وقفنا برهة قلت لها: يا عزيزتي بولينا لقد أبطأنا بالرجوع، فماذا تقصدين بوقوفك هنا؟ والظلام حالك، ولم لم تختاري سوى هذا الباب من بين سائر الأبواب؟ فإذا كنت تبغين الدخول فلا يمكنك ذلك إذ هو موصد، فلنرجع إلى المنزل، وفي الغد إن شاء الله تأتي فتفعلين ما تشائين. ولكنها لم تكترث بقولي، بل لبثت تعالج الباب كأنها تؤمل سهولة فتحه، فتركتها تفعل ما تريد حتى إذا ما ملت وضجرت من الانتظار نكصت راجعة بخفي حنين. وبينما أناجي نفسي بذلك وقد أخذني العجب لمجيء بولينا إلى هذا البيت المهجور في ذلك الليل الدامس، فطنت بغتة لمفتاح منزلي فأخذته وأدخلته في القفل غير آمل بنتيجة لذلك سوى الخيبة، ولكنه ما لبث أن مر به بسهولة، وبأقل من لمح البصر فتح الباب. وللحال شعرت بأنه قد مسني سلك كهربائي، فارتعشت أعضائي عندما فكرت بمناسبة المفتاح لذلك الباب الذي ولجته حين كنت أعمى.
أما بولينا فلم تبطئ بل دفعتني ودخلت بسرعة بقدم ثابتة دون أن يعيقها الظلام، ثم شرعت بالصعود على سلم فتبعتها، وكان خمس درجات فأصابتني عند ذلك قشعريرة وكأن الدم قد جمد في عروقي، فتغلبت على اضطرابي وسرت إلى حيث سبقتني بولينا، وحيث ظننت باب الغرفة فبلغته بلا عناء - ولا عجب من ذلك فإني زرت هذا المكان قبلا واختبرت طرقه - ولكن أنى تأتى لبولينا معرفة ذلك حتى دفعت الباب حال وصولها ودخلت دون أن تلتمس لذلك دليلا! أما أنا فأخرجت من جيبي نفطا كنت أستعمله للتبغ وأشعلته، فأول شيء وقعت عيني عليه هو بقية شمعة موضوعة على منضدة في وسط الغرفة، فأنرتها، وللحال أبصرت بولينا واقفة في منتصف الحجرة معتمدة رأسها بين يديها تتنازعها الأفكار، فتارة تطرق إلى الأرض وطورا تجيل أبصارها في الغرفة بهيئة يذوب لها الجماد حزنا، فتقدمت إليها وخاطبتها برقة فلم يجدني ذلك نفعا، فأخذت بيدها وحركتها مناديا إياها، ولكنها لم تنتبه لوجودي أمامها، فلبثت حائرا في أمري لا أدري ما الواسطة لإيقاظ شعورها. وبينا أنا بالانتظار أخذت أنقل النظر من مكان إلى آخر في تلك القاعة، فرأيت فيها قليلا من الأثاث مكسوا بالغبار مما يدل على طول هجره، ثم تصورت القتيل الذي سقطت فوقه في المكان الذي أنا واقف فيه الآن، ثم التفت إلى الزاوية التي عن يميني فتذكرت وقوفي بها إذ أمرت بألا أتحرك أو أقتل وكيف بعد ذلك قدت إلى كرسي وأسقيت المسكر.
وبينا أنا آخذ بالتذكار متلفتا من جهة إلى أخرى رأيت بابا في الجهة اليمنى من الغرفة، فدنوت منه وإذا بمخدع آخر يشبه الأول وإلى إحدى زواياه بيانو قد وضع عليها كتاب الأنغام، فعلمت أن من هذا المخدع قد طرق أذني ذلك النغم الشجي في تلك الليلة الرهيبة، فدخلت إليه مرتعشا ولا أعلم أي قوة جذبتني نحو آلة الطرب، فجلست أمامها وجعلت أوقع الأنغام التي صادفتها أمامي على الكتاب المفتوح بعد أن نزعت الغبار عنه بمنديل، وإلا لما قدرت أن أميز حرفا منه. فيا للعجب أن هذه الأنغام لم تكن سوى تلك التي سمعتها في ذلك الليل وأنا كفيف! وإني لكذلك إذا ببولينا هبت مسرعة ودنت من الآلة، وكأني بها تريد الجلوس مكاني، فأخليت لها الكرسي ووقفت جانبا أعاين حركاتها، فابتدأت بتوقيع هذه الأنغام بغاية من الدقة والإحكام، وأصحبتها بصوت رخيم ذهلت لسماعه، فلم أشك بعد ذلك أن هي التي سمعتها في ذلك الحلم المريع، وصرت أتوقع وصولها إلى النقطة التي قطع بها الصوت وقام مكانه الأنين. وهكذا كان فإنها لم تأت على هذا النغم حتى انتفضت كعصفور بلله القطر، وقد جحظت مقلتاها ثم صرخت صوتا مرعبا كمن مسه خوف شديد، وتبع ذلك أنين ضعيف ثم هوت فطوقتها بذراعي قبل وصولها إلى الأرض.
ولبثت غائبة عن الصواب بضع دقائق وهي مسندة إلى صدري، ترسل أصواتا مقلقة، وقد ضاق عليها التنفس، فدنوت من النافذة وفتحتها لتستنشق نقي الهواء، فانطفأ الضوء عند هبوب أول نسمة منه، وكدنا نصير في ظلام تام لو لم ينجدنا مصباح آخر أسنى بهاء وأعظم ضياء؛ فإن القمر كان في بدء طلوعه قد نشر أشعته الفضية على الكون، فأصاب منه وجه بولينا شعاع زاد في هيئتها ذبولا وفي جمالها تأثيرا.
ولم يمض إلا القليل حتى سكن اضطرابها وانتظم خفقان قلبها، فعاد الدم إلى مجراه ودبت الحرارة في جسدها المثلج، فصارت أنفاسها تعلو وتهبط بسهولة ممتزجة بالنسيم اللطيف المار على محياها المصفر كأنه يريد تقبيل ثغرها الباسم بنوع من الهويناء، فتسعى إليه أراقم شعرها منسابة حول وجهها الجميل كأنها تذود عن ذلك الكوثر العذب.
أما أنا فطفقت أتأمل بهذا الجمال السامي وتلك الهيئة الملائكية، كيف جار عليها الزمن ودهمتها طوارق الحدثان ولا ذنب لها ولا إثم؟ فكاد قلبي يتقطع لا سيما عندما افتكرت أنه قد مضى عليها ثلاث سنوات وهي في هذه الحالة التعيسة، ولا ريب عندي في أنها اطلعت على تلك الجريمة التي جرت في ذلك الليل المخيف؛ لأنني قد سمعتها تتأوه بما يماثل فعلها الآن، ولا بدع فإنها أمسكت وقتئذ بأيد تختلف كثيرا عن الأيدي التي تحيط بها الآن. فيا لهم من قوم برابرة قد وجدوا ليسلبوا الناس راحتهم وسعادة أيامهم! أفتظن بعد يا سنيري أنك تخدعني؟ وأنت يا مكيري اللئيم ألم تزل مطمئن البال من عدم اطلاع أحد على فظائعك، لقد ساء فألكما أيها الشقيان، فأبشرا بالعقاب فقد برح الخفاء وأتاكما فوكهان يطالب بثأر من ظننتماها فقدت من الأنام نصيرا.
Shafi da ba'a sani ba