Ghabir Andalus Wa Hadiruha
غابر الأندلس وحاضرها
Nau'ikan
وحقيق بكل بلد للعرب فقد استقلاله أن يقيم كل سنة المآتم على ما حل به خصوصا في البلاد التي يعبث فيها المتغلبون بمشخصات المغلوبين، فإن بعض العناصر الأوروبية كالإسبان لم يكتفوا بطرد العرب من بلادهم؛ بل يحاولون اليوم في الريف من بلاد مراكش أن يجلوهم عنها بعد أن تأصلت كلمتهم فيها منذ ثلاثة عشر قرنا أقاموا خلالها مدنيات، وأنشئوا أمجادا لهم ودولات.
إن العرب الذين أنشئوا من العدم مدينة الأندلس، وقاموا في عصور الظلمات بأعمال لا يكاد يصدق الناظر إليها أنها بنت قرائحهم، وثمرة عقولهم، لو لم تتناصر على ذلك أصدق الروايات، لا يعجزهم اليوم، والعصر عصر النور، إن يقوموا بمثل ما عمله أجدادهم، لو نفس خناقهم، وملكوا زمنا قياد أنفسهم. بعض أهل الغرب اليوم حرب على الشرق، وسوف تكون لهذا الغلبة للاحتفاظ بدياره وآثاره، وأمامه إسبانيا والبرتغال اللتان ثأرتا لنفسهما من مستعبديهما بعد قرون، ولم تكونا في رقي العرب اليوم عددا وعددا، ومضاء وغناء.
أضعف أمة في الغرب لا يبلغ عدد أهلها عدد أهل إقليم واحد من أقاليم العرب أو قطر من أقطارهم تتناغى الليل والنهار بآثارها، وتتحدث بمفاخر أجدادها، وتقدس أعمال نوابغها ورجالها، ولا تنسى يدا للمحسن إليها، ولا إساءة مجرم جان عليها، العرب توغلوا يوم اشتد سلطانهم في جنوبي أوروبا، ونشأت لهم حكومات في شبه جزيرة أيبيريا وجزيرة صقلية وسردانية، فارتكبوا بذلك جناية في عرف أهل تلك الديار، أفليس من العدل أن تغتفر لهم هذه الهفوة أو الغزوة، في جانب ما حملوه إلى من غلبوهم من ضروب المعارف والصناعات، ومستحسن الآداب والأخلاق. العرب حملوا إلى الأندلس حضارة رائقة، ونظاما محكما، أحلوها محل الفوضى والتوحش، والسخافات والخرافات.
تود كل أمة اليوم مهما بلغ من تراجع الحضارة بينها أن تحكم نفسها بنفسها، وتمثل مشخصاتها ومقدساتها، فهل ينال العرب هذه الأمنية، وهم ليسوا دون بعض الأمم الأوروبية التي أخذت تتمتع الواحدة تلو الأخرى باستقلالها منذ قرن من الزمن، فليس كل أمم أوروبا بحضارتهم الإنكليز والألمان والفرنسيين، ولا كل الشعوب العربية على مستوى واحد في الحضارة والنور.
الفصل التاسع عشر
جلاء المسلمين وتنصيرهم
لما استولى العرب المسلمون على الأندلس لم يكرهوا أحدا من سكان البلاد الأصليين على الدخول في دينهم؛ بل أظهروا التسامح المقبول الذي يأمرهم به الدين الحنيف، وأطلقوا للناس حريتهم في ذلك، فكان الإسبانيون يدينون بالإسلام برضاهم.
فعهد العرب إذا في الأندلس كان عهد تسامح وحرية، لم تعهده من قبل ولا من بعد، ولم يمنع عن بث الدين المسيحي إلا دعاته المفرطون، ممن كانوا يقفون على أبواب المساجد والجوامع، ويدعون المسلمين إلى دينهم، ولا جوزوا أخذ مال أحد من أهل ذمتهم؛ بل اكتفوا بجزية بسيطة، وساووهم في جميع الأمور بأنفسهم.
مثال من لطف الحكم تعلمه الفاتحون من كتابهم فلم يحيدوا عنه قيد غلوة، وهم في عز سلطانهم، والقول الفصل في الأرض كلها لهم ولقومهم مدة قرون طويلة.
هكذا فعل العرب في إبان قوتهم، فانظر ماذا صنع الإسبان يوم قوي سلطانهم، وكيف عاملوا العرب نقلا عن شاهد العيان قال: لما استولى صاحب قشتالة على مدينة بلش عام اثنين وتسعين وثمانمائة، ودخلت في ذمته جميع القرى التي تلي بلش وقرى جبل منتميس وحصن قمارش خرج أهل بلش من بلدهم مؤمنين، وحملوا ما قدروا على حمله من أموالهم؛ فمنهم من جوزه العدو إلى أرض العدوة، ومنهم من أقام في بعض تلك القرى، ومنهم من صار إلى أرض المسلمين التي بقيت بالأندلس.
Shafi da ba'a sani ba