[مقدمة المؤلف]
الحمد لله رب العالمين، وصلواته على محمد المصطفى الأمين، وعلى أخيه الأنزع البطين ، وعلى سيدة نساء الخلق أجمعين، وعلى سبطيهما والأئمة السابقين، والمقتصدين من أبنائهم المنتجبين، وعلى أصحابهم وأتباعهم إلى يوم الدين. وبعد..
فهذه نخب مصطفاة من أقوال أئمتنا، ونغب مصفاة من سلسال معين علمائنا، اعتصرتها من أفانين دوحات معارفهم الواسعة، واختصرتها من قوانين مصنفاتهم الحافلة الجامعة، ورصعت جواهر عقدها المذهب، بأقوال أئمتنا وما لخصه المتأخرون للمذهب وأضفت إليها من مذاهب شيوخ العدل والتوحيد، ما هو أعذب من الفرات وأحلى من جنى التوحيد ، ومن مذاهب غيرهم من علماء الأمة الأحمدية، وحكماء العصابة المحمدية، فليثق باحث كنوزها بنيل أمله، وليستعن كاشف رموزها بإخلاص نيته وعمله.
ومن تأملها منصفا، وجعل فكره /5/ الصحيح لمعانيها منصفا علم أنها لباب نزع قشره، وعباب لا يدرك قعره، وتيقن أنها - على صغر حجمها - محيطة بزبد المختصرات، ومحاسن البسيطة من الأمهات المعتمدة، والمصنفات المنتقدة.
Shafi 82
وجردتها عن الأمارات والأدلة، اكتفاءا بشموس مسائلها والأهلة، وتسهيلا لحفظها، وتقليلا للفظها، وإحالة إلى أصولها، وحثا للإخوان على شرح فصولها. ولم أبالغ في اختصارها صونا لها عن الإلغاز، ولا في بسطها لمنافاته للإيجاز، مع اقتفاء منهج المختصرين من أهل التصنيف، في حسن التهذيب والترصيف، وإبراز المعنى الخفي اللطيف، في إبريز اللفظ الجلي الطريف، على أنه قد قال غير واحد من علمائنا الأفاضل: (( المصنفون حقيقة هم الأوائل )) فأما المتأخرون فمصنفاتهم إيجاد الموجود وتحصيل الحاصل؛ إذ الأوائل هم المفجرون لعيون الحكم الجارية في أنهارها، والملتقطون لمكنون الدر المودع في بحارها، وإن أخطأوا حينا في معنى أو عبارة، فكل /6/ منهم هو السابق في حلبة الفضل المقفو آثاره، ولا شك أن للمتقدم فضيلة السابق المبتدئ، كما أن للمتأخر - وإن قصر عنه - فضيلة اللاحق المقتدي، نسأل الله أن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم، ومرقاة موصلة إلى جنات النعيم، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
Shafi 83
مقدمة لا بد لطالب أصول الفقه من معرفتها
(1) فصل مبادئه: حده، وموضوعه، وفائدته، واستمداده، وحكمه
أما حده مضافا، فالأصل لغة: ما يتفرع عليه غيره، وهو في عرفها: حقيقة في الناميات، مجاز في غيرها. واصطلاحا: الدليل.
والفقه لغة: العلم، أو الظن لأمر خفي، ولو بغير خطاب في الأصح . واصطلاحا: العلم أو الظن للأحكام الشرعية الفرعية، عن أدلتها التفصيلية، وأكثرها مظنون، ووجوب العمل به معلوم.
وأما حده لقبا: فالقواعد التي يتوصل بها إلى استنباط الأحكام الشرعية الفرعية عن أدلتها التفصيلية. وقيل: العلم بها أو الظن. وهي: قطعية، وظنية .
وأما موضوعه: فالأدلة السمعية الكلية .
وأما فائدته: فالعلم بأحكام الله.
وأما استمداده، فمن: (الكلام)، لتوقف الأدلة السمعية الكلية على معرفة الصانع وصدق /7/ المبلغ. ومن (العربية)؛ لأن الأدلة من الكتاب والسنة عربية. ومن (الأحكام)، والمراد: تصورها بالحد ؛ ليمكن إثباتها أو نفيها بعد ذلك في أفراد المسائل، لا حصولها، وإلا لزم الدور .
وأما حكمه: فالوجوب على الكفاية.
(2) فصل وينحصر في: الأمر، والنهي، والعموم، والخصوص، والمطلق، والمقيد، والمجمل، والمبين، والظاهر، والمؤول، والناسخ، والمنسوخ، والإجماع، والأفعال، والأخبار، والقياس، والإجتهاد، وصفة المفتي والمستفتي، والحظر، والإباحة، والتعارض، والترجيح.
Shafi 84
[وضع الألفاظ وأقسامها ومتعلقاتها]
(3) فصل وما يصح المواضعة عليه؛ إن لم تقع فهو: (المهمل) ، وإن وقعت، فهو: (المستعمل)، ويسميان: كلاما عند (جمهور الأصوليين). وينقسم المستعمل إلى: مفرد، ومركب.
والمفرد ينقسم عند (جمهور الأصوليين والمتكلمين) إلى: مفيد ، وهو: حقيقة ومجاز، كأسد للسبع، والرجل الشجاع. وإلى جار مجرى المفيد، وهو الموضوع بإزاء أمر لا يختص بذات دون أخرى، كشيء ، ولا يجوز تغييرهما واللغة بحالها . وإلى: غير مفيد ولا جار مجراه، وهو العلم، كزيد ، ويجوز تغييره واللغة بحالها. (الإمام وبعض الأصوليين، وأهل اللغة، والعربية): بل هما من المفيد وليسا بمستقلين .
والمركب ينقسم إلى: خطاب، وإلى غير خطاب.
فالأول: ما قصد به المتكلم إفهام غيره معنى من المعاني/8/.
والثاني: ما جرى على رسم الدرس .
(4) فصل والمفرد عند (النحاة): ما لا يدل جزؤه على جزء معناه، والمركب بخلافه. فإن أفاد نسبة يصح السكوت عليها؛ فهو الكلام. وأقل ائتلافه من: اسمين، أو من فعل واسم.
(5) فصل ودلالة المفرد على ما وضع له: مطابقة، كدلالة عشرة على خمستين، وعلى جزئه تضمن، كدلالتها على خمسة ، وعلى لازمه التزام، كدلالتها على كونها زوجا.
والأولى وضعية اتفاقا ، والثالثة عقلية اتفاقا ، والأصح في الثانية أنها وضعية . وشرط اللزوم كونه ذهنيا، وإن لم يكن خارجيا في الأصح. وقد تسمى الثلاث وضعية .
Shafi 85
(6) فصل وهو موضوع للمعنى الخارجي. وقيل: للذهني. وقيل: للمعنى من حيث هو هو. ولا يجب أن يوضع لفظ لكل معنى إلا فيما دعت إليه الحاجة ، ووضعه للمعنى الجلي لا الخفي إلا على الخواص ، كما يقول مثبتو المعاني : الحركة معنى يوجب تحرك الذات . ولذلك ضعف استدلال الأشعرية على إثبات المعاني القديمة بنحو أنزله بعلمه .
(7) فصل (أئمتنا ، والمعتزلة ، واللغويون، والنحاة): والكلام حقيقة في المسموع، مجاز في غيره، كالنفساني، وهو: تصور /9/ الكلام. فأطلق على التصور مجازا تسمية له باسم ما يؤول إليه. (الأشعرية ) : بل هو معنى قديم في الغائب، محدث في الشاهد، ولفظه مشترك بينه وبين المسموع. وعن بعضهم: حقيقة في النفساني مجاز في غيره. واتفقوا على أن كلام الأصولي على المسموع. وفي تسمية الكلام خطابا في الأزل خلاف بينهم.
(8) فصل وينقسم إلى: خبر وإنشاء؛ لأنه إما أن يكون لنسبته خارج في أحد الأزمنة الثلاثة، أو لا. الأول: الخبر. والثاني الإنشاء. ويسمى: تنبيها . وينقسم الخبر إلى: صدق وكذب لا غيرهما، خلافا للجاحظ، وسيأتي. والإنشاء إلى: أمر، ونهي، واستفهام ويسمى: استخبارا، وإلى: تمن، وترج، وعرض، ونداء وغيرها .
(9) فصل (جمهور المعتزلة): ولكل منهما حكم يتميز به عن الآخر، معلل بالفاعل بواسطة الإرادة . (المنصور ، والإمام، والملاحمية): لا حكم لهما. (الشيخ ): للخبر حكم دون الإنشاء.
Shafi 86
واختلف في الأمر لماذا كان أمرا ؟ فالأقلون: لا يعلل ذلك. والأكثرون: بل يعلل. ف(البغدادية ، والفقهاء): لذاته. و(أئمتنا، والبصرية ) : لإرادة المأمور به. (الأشعرية): لإرادة /10/ كونه أمرا.
(10) فصل والمفرد إما أن يتحد ويتحد مدلوله، أو يتعددا، أو يتحد ويتعدد مدلوله، أو عكسه.
فالأول: إن منع تصور معناه الشركة فيه؛ فجزئي حقيقي كزيد ، أو إضافي كالنوع باعتبار الجنس . وإلا فكلي؛ متواطئ إن استوى، كحيوان ، ومشكك إن تفاوت، كالموجود . ثم هو ذاتي وعرضي، كحيوان ومتنفس.
والثاني: المتباين، كأسد، وفرس، وثور، ومفترس، وصاهل ، وحارث.
والثالث: إن كان حقيقة في مدلولاته؛ فمشترك كنظر، وناظر . وإلا فحقيقة ومجاز كبحر، وزاخر.
والرابع: المترادف، كقعود وجلوس، وقاعد وجالس. وكلها مشتق وغير مشتق.
(11) فصل والعلم ما وضع لمعين لا يتناول غيره بوضع واحد، فإن كان التعيين خارجيا، فعلم الشخص، كزيد، وإلا فعلم الجنس كأسامة ، فإن سبق له وضع في النكرات، فهو المنقول كأسد ، وإلا فهو المرتجل كعمران. واسم الجنس: ما وضع لشيء لا بعينه كرجل.
[مباحث في المشترك اللفظي]
(12) فصل والمشترك: اللفظ الواحد /11/ الموضوع لحقيقتين فصاعدا. (أئمتنا والجمهور): وهو ممكن عقلا، واقع لغة وشرعا. وأوجب قوم وقوعه، ونفاه (ثعلب وأبو زيد(2) والبلخي والأبهري ) مطلقا، وقوم في القرآن، وقوم فيه وفي السنة، (والرازي ) بين النقيضين.
Shafi 87
وهو: إما بوضع اللغة فقط، كشفق أو العرف فقط، كدابة . أو الشرع فقط، كالصلاة ، أو باثنتين منها . (الشيخ، وحفيده ) وغيرهما: أو بمجموعها ، وذلك عند استواء استعماله فيها. وهو بعيد. ويكون بين ضدين، كجون ، ونقيضين: كقرء ، ومختلفين، كعين ، لا بين مجازين في الأصح .
ويعرف بالنص عليه ، أو بالاستدلال بسبق الفهم عند إطلاقه إلى معنيين فصاعدا، أو بحسن الاستفهام عنه .
والفرق بينه وبين المتواطئ - وإن كانت نسبتهما إلى مسمياتهما متساوية - أن مسميات المتواطئ مشتركة في معنى يشملها، ومسميات المشترك مشتركة في اللفظ فقط.
(أئمتنا، والجمهور): ويصح إطلاقه حقيقة على كل معانيه غير المتنافية مطلقا. (أبو هاشم ، والكرخي ، وأبو عبد الله ): يمتنع مطلقا. (الإمام، وأبو الحسين ، والشيخ) وبعض /12/ الأشعرية): يصح من حيث الإرادة لا اللغة. وقيل: يصح في النفي دون الإثبات . وقيل : في الجمع خاصة . (جمهور المتأخرين): يصح مجازا.
(أئمتنا، والشافعي، وجمهور المعتزلة): فيجب حمله على جميعها عند تجرده عن القرينة؛ لظهوره فيها، كالعام، فلا إجمال فيه. (أئمتنا): ومنه (حديث الغدير) . وقيل: يحمل على أحدها على البدل، فهو مجمل ، وسيأتي إن شاء الله تعالى. فأما المتنافية فيحمل عليها على البدل حتى يظهر دليل الرجحان.
والخلاف في تثنيته وجمعه باعتبار معانيه ينبني عند (الجمهور) على الخلاف في المفرد ، ومختار أكثر متأخري النحاة منعهما.
Shafi 88
[مباحث في الحقيقة والمجاز]
(13) فصل والحقيقة لغة: الراية، ونفس الشيء. واصطلاحا: اللفظ المستعمل فيما وضع له في اصطلاح به التخاطب.
وتنقسم إلى: لغوية كأسد للسبع. وعرفية عامة، وهي: ما لا يتعين ناقلها كدابة لذات الأربع. أو خاصة: وهي ما تعين ناقلها، كاصطلاح أهل كل علم، نحو الجوهر للمتحيز الذي لا يقبل القسمة. وشرعية: كالصلاة للعبادة.
وإلى مفردة: وهي ما تفيد معنى واحدا. ومشتركة/13/: وهي ما تفيد أكثر منه .
وإلى مشروطة، كالبلق . وتسمى: المقيدة. وغير مشروطة: كطويل ، وتسمى: المطلقة.
(14) فصل والحقيقة الشرعية ممكنة عقلا، خلافا (لعباد) . واختلف في وقوعها، فعند (أئمتنا، والمعتزلة، وجمهور الفقهاء): أنها واقعة بالنقل عن معانيها اللغوية إلى معان مخترعة شرعية، فما نقل منها إلى أصول الدين؛ فحقيقة دينية، كمؤمن وفاسق. وما نقل منها إلى فروعه؛ فحقيقة فرعية، كالصلاة والصوم والزكاة والحج. (الباقلاني ، وبعض المرجئة ): لم تقع مطلقا، بل هي باقية على حقائقها اللغوية لم تنقل عنها . (الشيرازي ، وابن الحاجب ، والسبكي ) : الفرعية واقعة لا الدينية. (الإمام، والغزالي ، والرازي): تدل على المعنيين اللغوي والشرعي معا.
ثم اختلفوا؛ ف(الإمام، والغزالي): تدل عليهما حقيقة. (الرازي): تدل على اللغوي حقيقة، وعلي الشرعي مجازا، وتوقف (الآمدي ) .
وتكون متواطئة كالحج ، ومشتركة كالصلاة .
Shafi 89
(15) فصل واللفظ المراد به اللازم إن قامت قرينة على عدم إرادة ما وضع له فمجاز، وإلا فكناية /14/. وهي: لفظ أريد به لازم ما وضع له مع جواز إرادته معه، كطويل النجاد .
والمجاز لغة: العبور، واصطلاحا: اللفظ المستعمل في غير ما وضع له في اصطلاح به التخاطب ، على وجه يصح ، مع قرينة عدم إرادته.
وينقسم إلى: لغوي، كأسد للشجاع. وعرفي عام: كدابة لكل ما دب. أو خاص: كاستعمال اصطلاح أهل كل علم في غيره، كالجوهر للنفيس . وشرعي كالصلاة للدعاء.
(16) فصل وهو واقع، خلافا (للفارسي ، والإسفرائيني ) مطلقا، و(للإمامية ، والظاهرية ) في الكتاب، و(للظاهرية) في السنة، وحملوا المجازات الواردة على الحقيقة. (ابن جني ): وهو الأغلب في اللغة.
ويقع في المفرد والمركب كالحمار للبليد، وشابت لمة الليل . ومنعه (السكاكي ، وابن الحاجب): في التركيب .
وإنما يعدل عن الحقيقة لأمر يرجع إليها، كثقلها أوجهلها ، أو نحو ذلك كبلاغته أو شهرته أو نحو ذلك .
(17) فصل ولا بد من علاقة بين المدلول الحقيقي والمجازي، فإن كانت غير المشابهة بينهما؛ فالمجاز المرسل، وإلا فالاستعارة، فإن ذكر فيها المشبه به فالتحقيقية /15/، وإن ذكر المشبه؛ فالمكنى عنها.
وقد حصرت العلاقة بحسب الاستقراء في ثلاثة وعشرين نوعا:
إطلاق اسم أحد المتشابهين على الآخر، إما في شكل، كالإنسان على الصورة، أو في صفة ظاهرة، كالأسد على الشجاع، لا على الأبخر لخفائها.
وتسمية الشيء باسم ما كان عليه، كالعبد. وباسم ما يؤول إليه، كالخمر.
Shafi 90
وإطلاق اسم المحل على الحال، نحو جرى الميزاب. وعكسه .
وإطلاق السبب على المسبب . وعكسه . واسم الكل على البعض . وعكسه . والمطلق على المقيد . وعكسه . والخاص على العام . وعكسه .
وحذف المضاف مع إقامة المضاف إليه مقامه، أو من دون إقامته ، ويسمى مجاز النقص. وعكسه . واسم آلة الشيء عليه . واسم الشيء على بدله . والنكرة على العموم . واسم الضدين على الآخر .
وإطلاق المعرف على المنكر .
والحذف والزيادة، ويسمى مجاز الزيادة .
ولا يخفى تداخل بعضها .
(18) فصل والنقل شرط في هذه الأنواع اتفاقا، دون أفرادها، وقيل: يشترط فيها، وتوقف (الآمدي).
فأما امتناع: نخلة لطويل غير إنسان ، وشبكة للمصيد /16/، وابن للأب وعكسه ، فلعدم تحقق العلاقة إن صح الامتناع.
(19) فصل وتعرف الحقيقة: إما بالنص عليها بعينها ، أو بحد شامل، أو بذكر خاصية . وإما بالاستدلال؛ بسبقها إلى الفهم من دون قرينة، أو عروها عنها عند الاستعمال.
ويعرف المجاز: بالنص عليه كذلك. أو بالاستدلال: بسبق غيره إلى الفهم، راجحا لولا القرينة، أو باستحالة قيامه بما علق به .
وفي معرفته بصحة نفيه - كقولهم للبليد: ليس بحمار - وجمعه على خلاف جمع الحقيقة - كأمور جمع أمر للفعل - وامتناع أوامر ، وعدم الاشتقاق منه ، وعدم اطراده في مدلوله ؛ خلاف.
(20) فصل (القاسمية ، والشافعي): ويصح أن يراد باللفظ حقيقته ومجازه، كالمس، إذ لا مانع عقلي ولا لغوي، خلافا (لأبي حنيفة، وأبي هاشم، وأبي عبد الله).
Shafi 91
(21) فصل والأعلام ليست بحقيقة ولا مجاز، وكذا غيرها من الألفاظ، بعد الوضع وقبل الاستعمال لا بعده؛ فلا يخلو عنهما أو عن الكناية.
ولا تستلزم الحقيقة مجازا اتفاقا بين الأصوليين؛ إذ من الحقائق ما لا مجاز له /17/، واختلف في استلزام المجاز لها، والمختار - وفاقا (للجمهور) -: أنه لا يلزم، كالرحمن وعسى .
(22) فصل والقرينة لغة: بعير صعب يقرن بذلول. واصطلاحا: ما أوجب صرفا أو تخصيصا ، قيل: أو تكميلا . وتنقسم في نفسها إلى: لفظية، ومعنوية.
فاللفظية: اللفظ المستعمل لدفع الاحتمال في غيره، وتكون (متصلة)، وهي غير المستقلة بنفسها، كتخصيص عموم الكتاب أو السنة بالإستثناء، أو الصفة، أو الشرط، أو الغاية. و(منفصلة): وهي المستقلة بنفسها كتخصيص عمومهما بالمستقل منهما أو بالإجماعين اللفظيين.
والمعنوية: الموضحة لإبهام ما سبق من غير لفظ، وتكون: (عقلية)، ضرورية، وهي: المستندة إلى العقل بلا واسطة نظر، نحو: ? تدمر كل شيء?[الأحقاف:25] وتسمى الحالية. واستدلالية: وهي المستندة إليه بواسطة النظر كالمخصصة لغير المكلفين من عموم خطاب التكليف وما يترتب عليه كالوعيد. (وسمعية) وهي: المستند إيضاحها إلى السمع، كالفعل، والترك، والتقرير المخصصة لعموم الشرع . (وعرفية): وهي المستندة إلى العرف، وتسمى العادية .
Shafi 92
وتنقسم باعتبار فائدتها إلى: رافعة، وهي: الموجبة صرف اللفظ عن ظاهره، لفظية كانت أو معنوية ، وتختص بالمجاز. ومخصصة /18/: وهي الموجبة قصر العام على بعض مدلوله، والمشترك على أحد محتملاته، وتختص بهما . قيل: وإلى مكملة، وهي تمام فائدة خطاب بخطاب أو بغير خطاب كعلل القياس ، ونحوها من التعلقات المخصوصة .
[مباحث في المترادف والمشتق]
(23) فصل والمترادف: لفظان فصاعدا لمعنى واحد، وهو واقع عند (أئمتنا، والجمهور)، خلافا (لثعلب، وابن فارس ) . ويقع كل منهما مكان الآخر إلا في المتعبد به ، وتكون من واضع أو واضعين.
وفائدته: التوسعة، وتيسير النظم والنثر، والتجنيس.
والأصح أن الحد والمحدود، ونحو: شيطان ليطان، غير مترادفين .
(24) فصل والإشتراك، والنقل، والمجاز، والإضمار، والتخصيص، والنسخ، خلاف الأصل ، واحتمال قول المتكلم لأحدها، هو المخل بفهم مراده، ولا خلل مع انتفائها .
وإذا دار اللفظ بين الإشتراك والمجاز فالمجاز أولى لغلبته. وقيل: بل الإشتراك. (الإمام): يوكل إلى نظر الفقيه.
(25) فصل والمشتق: ما وافق أصلا بحروفه الأصول، ومعناه بتغيير ما .
وقد يطرد بحسب الوضع اللغوي ، كاسم /19/ الفاعل ونحوه، وقد يختص ، كالقارورة ونحوها.
(26) فصل (الجمهور): ويشترط في كون المشتق حقيقة بقاء معناه مطلقا . (أبو هاشم، وابن سيناء ) : لا يشترط مطلقا. وقيل: إن كان بقاؤه ممكنا بوجود أجزائه دفعة، كضارب أشترط، وإلا فلا، كمتكلم . وهو في المستقبل مجاز اتفاقا .
Shafi 93
(27) فصل والمعنى القائم بمحل، إن لم يكن له اسم مخصوص، كأنواع الروائح، لم يشتق منه اسم لمحله ، واختلف فيما له اسم مخصوص، فعند (أئمتنا، والمعتزلة): لا يجب أن يشتق منه اسم لمحله ، ويصح الإشتقاق منه لغيره، وهو فاعله كمتكلم ، وخالفت (الأشعرية) في الأمرين .
(28) فصل ومدلول الوصف المشتق ذات ما متصفة بالمشتق منه، من غير إشعار بخصوصيتها، فالأسود إنما يدل على ذات متصفة بالسواد من دون خصوصية، كالجسمية أو غيرها ، ومن ثم قال (أبو هاشم): لو قدر أنه تعالى مرئي لم يلزم مجانسته للمرئيات، وقال (أبو علي ) : يلزم .
(29) فصل وما ثبت التعميم فيه بالنقل جامدا كرجل، أومشتقا كعالم، أو بالإستقراء كرفع الفاعل؛ فمتفق على اطراده .
واختلف في إثبات الأسماء اللغوية /20/ بقياس لغوي، فيسمى - لغة -: المسكوت عنه باسم غيره بجامع بينهما، كالنبيذ خمرا للتخمير، والنباش سارقا للأخذ خفية، واللائط زانيا للإيلاج المحرم.
والمختار: منع ذلك، إلا بالنقل والإستقراء، وفاقا (للجويني، والغزالي، والآمدي، وابن الحاجب)، وخلافا (للمنصور، والباقلاني، وابن سريج ، وابن أبي هريرة ، والرازي، وجمهور أئمة العربية).
وليس المجاز من ذلك؛ إذ العلاقة فيه مصححة للتجوز كرفع الفاعل. فأما إثبات الأسماء الشرعية بقياس شرعي فجائز على الأصح كما يأتي .
Shafi 94
(30) فصل في الحروف
الواو: للجمع المطلق. عند (أكثر أئمتنا، والجمهور)، ولا يكون متبعها في الحكم محتملا للمعية برجحان، وللتأخر بكثرة، وللتقدم بقلة، خلافا (لبعض النحويين)، ولا للترتيب، خلافا (لأبي طالب ، والشافعي، والفراء ، وثعلب، وأبي عبيد )، وعن (الفراء) أنها: للترتيب حيث يستحيل الجمع من مفرد أو جملة ، ولا للمعية. قيل: وقد تزاد .
والفاء: للتعقيب خلافا (لبعض النحويين)، (من غير مهلة غالبا) ، وقد تقع موقع: ثم ، وتفيد السببية حيث يعطف بها جملة أو صفة .
وثم: تشارك الفاء في الترتيب على الأصح، وتنفرد بالمهلة على الأصح، وقد تقع موقع الفاء، وفي عطف المقدم بالزمان اكتفاء بترتيب اللفظ . (المؤيد بالله ) : وقد تقع موقع الواو.
وحتى: ومعطوفها بعض متبوعه أو كبعضه ، وغاية له في زيادة أو نقص ، ولا تقتضي ترتيبا خلافا (للزمخشري).
وأو، وإما: لشك أو تشكيك أو تقسيم أو إبهام أو تخيير ، وإذا استعملتا فيما أصله الحظر امتنع الجمع بين المعطوف والمعطوف عليه، لا ما أصله الإباحة ، وقد تكون أو بمعنى إلا . (الهادي) (ع) /22/: وبمعنى الواو .
ولا: وهي عاطفة بعد أمر أو خبر مثبت أو نداء وغير عاطفة نافية وزائدة ، وقد تحذف وهي مرادة .
وبل: لنفي الحكم عن الأول وإثباته للثاني .
ولكن: للإستدراك، ويلزمها النفي أو النهي عند عطف المفرد والتناقض عند عطف الجملة .
وكالحروف الناصبة:كإذن للجواب والجزاء عند (سيبويه ) . قيل: مطلقا. وقيل: غالبا.
Shafi 95
ولن: لتأكيد النفي في الإستقبال، وهي حقيقة في التأبيد، وفاقا (للزمخشري) وغيره، وخلافا (لابن مالك ) وغيره، ولا ترد في الدعاء خلافا (لابن عصفور ) .
وكي: للسببية.
وكحروف الجر ومنها:
من: لابتداء الغاية، والتبعيض، والتبيين، وزائدة، وللتعليل، والبدل، والمجاوزة، وللإنتهاء، والإستعلاء، وللفصل. ولموافقة: الباء، وفي. وترد لتنصيص العموم، أو لمجرد التوكيد بعد نفي أو شبهه .
والباء: وهي للإلصاق، والإستعانة، (والسببية، والتعليل)، والمصاحبة، (والظرفية، والبدل، وللمقابلة: وموافقة: عن وعلى. وتزاد مع فاعل ومفعول وغيرهما) ، ولا تكون للتبعيض /23/، وفاقا (للجمهور)، وخلافا (للشافعية).
واللام: للإختصاص، والتعليل، والإستحقاق، وللنسب، والعاقبة، والتبليغ، والتعجب، والتبيين، والصيرورة، وموافقة: في، وعند، وإلى، وبعد، وعلى، ومن .
وفي: للظرفية حقيقة أو مجازا، والمصاحبة، والتعليل، والمقايسة. وموافقة: على، والباء . وبين ظهورها وإضمارها فرق .
وإلى: للإنتهاء، والتبيين، والمصاحبة. وموافقة: اللام، وفي، ومن . واختلف في دخول ما بعدها في حكم ما قبلها، فقيل: يدخل. وقيل: لا يدخل. وقيل: مشتركة بينهما. وقيل: إن كان من جنسه فقط.
وعلى: للإستعلاء حقيقة أو حكما، والمجاوزة، والمصاحبة، والظرفية، والتعليل، وموافقة من، والباء .
وحتى: لانتهاء العمل بمجرورها أو عنده.
Shafi 96
ورب: وهي عند (جمهور البصريين، والكوفيين) للتقليل، وعند (صاحب العين ، وابن درستويه ) وغيرهما للتكثير، وقيل لهما: معا. وقيل: حرف إثبات لم توضع لهما، وإنما يفهمان من السياق، واختاره (أبو حيان)/24/.
والباء، والتاء، والواو: للقسم.
وكحروف الشرط وغيرهما نحو:
لو، ويقتضي امتناع ما يليه لامتناع تاليه، إن ناسب ولم يخلف المقدم غيره، نحو: ? لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا?[الأنبياء: 22] ، لا إن خلف. نحو: لو كان إنسانا لكان حيوانا، ويثبت إن لم يناف، وناسب بالأولى، نحو: لو لم يخف الله لم يعصه. أو المساواة نحو: لو لم تكن ربيبته لما حلت للرضاع. وهي للمضي، وقد تستعمل للمستقبل .
وإن، وهي لربط شرطها بجزائها، وكذا ما في معناها.
وأما، لتفصيل نسب متعددة، قيل: وقد تكون مقدرة .
ولولا، ومعناها في الجملة الاسمية: امتناع جوابها لوجود شرطها ، وفي الفعلية: التوبيخ إن كانت ماضية ، والتحضيض إن كانت مضارعة .
Shafi 97
ومنها لام التعريف، فإن أطلق اسم الجنس المعرف بها على نفس الحقيقة من غير نظر إلى ما صدقت عليه من الأفراد، نحو: الرجل خير من المرأة. فهو تعريف الجنس، ونحوه علم الجنس كأسامة، وإن أطلق على حصة منهما معينة معهودة بين المخاطبين، نحو: ما فعل الرجل. لمعهود بينك وبين مخاطبك، فهو تعريف العهد الخارجي، ونحوه علم الشخص كزيد، وإن أطلق على حصة غير معينة، نحو: أدخل السوق حيث لا عهد، فهو تعريف العهد الذهني، ونحوه النكرة كسوق، وإن أطلق على كل الأفراد نحو: ?والعصر إن الإنسان لفي خسر?[العصر:1] فهو تعريف الاستغراق، ونحوه كل مضاف إلى نكرة، نحو: كل إنسان في خسر.
[مبحث في سبب وضع الألفاظ وواضعها]
(31) فصل /25/ وسبب وضع اللفظ الحاجة إلى التعبير عما في الضمير، وهو ممكن بالإشارة والمثال، لكن اللفظ أولى؛ لأنه أعم منهما وأسهل.
ودلالته على مسمى دون مسمى مع استواء النسبة إليهما ممتنعة، فلا بد من مخصص له بأحدهما، والمخصص: إما الذات وهو باطل؛ إذ ليس بينه وبين مدلوله مناسبة ذاتية، خلافا (لعباد)، وتأوله (السكاكي). وإما الوضع وهو الأصح.
واختلف في واضع اللغات: فعند (جمهور أئمتنا، والبهشمية ) : واضعها البشر واحد أو جماعة، ويحصل تعريفها بالإشارة والقرائن كالأطفال.
وعند (المرتضى ، وأبي مضر، والبغدادية ، وأكثر الأشعرية): توقيفية.
(الأشعري ) : وذلك بالوحي، أو بعلم ضروري، أو بخلق الأصوات، إما أن يخلق في كل شيء إسماع اسمه أو في بعض الأشياء له ولغيره.
Shafi 98
(أبو علي، والإسفرائيني): القدر المحتاج إليه في التعريف توقيف، وغيره محتمل لهما.
وحكي عن (بعض المعتزلة) عكسه.
(الإمام، وابن أبي الخير ، وبعض الأشعرية): الجميع ممكن.
(32) فصل وطريق معرفتها إما العقل ولا مجال له في الوضعيات، أو النقل /26/ وهو بالتواتر فيما لا يقبل التشكيك كالأرض والسماء، وبالآحاد في غيره، ولو مرسلة.
وثبوت الأحكام العملية بها عند توقفها عليها كثبوتها بأخبار الآحاد، وشرط قبولهما واحد، وما قدح به (الرازي) وغيره في هذه القاعدة، فلا يسمع.
[الأحكام أنواعها وتوابعها]
(33) فصل والحكم لغة: المنع. وعرفا: الإلزام. واصطلاحا: الوجوب، أو الندب، أو الكراهة، أو الإباحة، أو الحظر. والأظهر أن إطلاق الحكم عليها بالإشتراك المعنوي لا اللفظي .
ويستدعي: حاكما، ومحكوما فيه، ومحكوما عليه.
فالحاكم: الشرع إتفاقا، والعقل، عند (أئمتنا، والمعتزلة، وبعض الفقهاء) لاستقلاله بمعرفة بعض الأحكام، خلافا (للأشعرية، وبعض الفقهاء)، ولذلك أنكروا التحسين والتقبيح العقليين، وحكموا بأن التكاليف كلها شرعية، وأنه لا حكم قبل الشرع، فلا يعاقب منكر الصانع الذي لا تبلغه دعوة النبوة، وسيأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى.
وينقسم خطاب الشرع - المعرف لعين المصلحة أو المفسدة - إلى: تكليفي ووضعي.
Shafi 99
[الحكم التكليفي وأقسامه]
(فالأول): الخطاب المعرف لغير السبب /27/ والشرط والمانع، وإنما يكون بالإقتضاء أو التخيير؛ لأنه إن اقتضى الفعل حتما فمعرف الوجوب. أو غير حتم فمعرف الندب. أو الترك حتما فمعرف التحريم. أو غير حتم فمعرف الكراهة. أو كان بالتخيير فمعرف الإباحة.
والواجب والمندوب والمباح والمكروه والمحظور: الفعل المتصف بذلك.
(34) فصل والواجب: ما استحق المدح على فعله والذم على تركه بوجه ما . (أئمتنا والجمهور): ويرادفه الفرض. (الناصر ، والداعي ، والحنفية): الفرض: ما دليله قطعي، يفسق تاركه، ويكفر مستحله، ويقضى. والواجب نقيض ذلك.
وينقسم الواجب - بحسب نفسه - إلى: ضروري واستدلالي. وإلى معين ومخير.
وبحسب فاعله، إلى: فرض عين، وفرض كفاية.
وبحسب وقته، إلى: مضيق، وموسع، وأداء، وإعادة، وقضاء.
فالمعين: ظاهر. والمخير : كالكفارات الثلاث، ويأتي في الأمر إن شاء الله تعالى.
واختلف في فرض الكفاية، فعند أئمتنا والجمهور: أنه واجب على الجميع، ويسقط بفعل البعض. وقيل: على البعض. ثم اختلفوا، فقال (الرازي، والسبكي): بعض مبهم. وقيل /28/: معين عند الله. وقيل: من قام به.
ويقع في أصول الدين وفروعه ، وتحرم الأجرة عليه إن تعين أداؤه كالعين . وفي تعينه بالشروع خلاف.
Shafi 100
وفرض العين أفضل منه وفاقا (للجمهور)، وخلافا (للإسفرائيني، والجويني ) وهو من فاعله بعد فعل من يسقط بفعله عنه نفل . وقيل: فرض، ويأثم الكل بالإخلال به إن عرفوه معا، وإلا فمن عرفه. (أبو العباس ، والإمام): وبعضه من فروض العلماء لا العوام . (بعض الفقهاء): بل عام. وقواه (المهدي ) .
والمضيق: ظاهر. والموسع: يأتي في الأمر إن شاء الله تعالى.
والأداء: ما فعل في وقته المقدر له أولا. والإعادة: ما فعل في وقته ثانيا لخلل في الأول. وقيل: لعذر وهو أعم. والقضاء: ما فعل بعد وقت الأداء لتركه فيه أو لوقوع خلل في فعله فيه. وإنما تقضى عبادة مؤقتة لم تقع في وقتها، أو وقعت فيه لكن مع خلل فيها، وورد الدليل بقضائها كالصلاة، والصوم.
(35) فصل ومالا يتم الواجب إلا به إن لم يكن مقدورا لم يجب، إلا عند مجوز تكليف ما لا يطاق، وإن كان مقدورا فإن قيد /29/ الوجوب به لفظا كالاستطاعة في الحج، لم يجب إلا عند حصوله، ولا يجب تحصيله اتفاقا. وإن أطلق، (فأئمتنا، والجمهور) على وجوب ذلك بالأمر الذي وجب به الواجب؛ لأن الأمر بالشيء أمر بمقدماته، وسواء كان شرطا عقليا، كترك كل ضد للواجب، أو فعل ضد في المحرم، أو عاديا كغسل جزء من الرأس ، أو شرعيا كالوضوء في الصلاة، أو كان علة كالنار للإحراق .
وقيل: لا يجب فيها مطلقا ، بل بغيره من الأدلة الخارجية . (الجويني، وابن الحاجب): بل يجب الشرط الشرعي دون غيره. (الموسوي ، والرازي): بل العلة دون غيرها.
Shafi 101