ربما ظننتم -يا أيها الإخوان المستمعون- أن هذه التعليمات صادرة عن إحدى البلديات أو إحدى دوائر الصحة في عصرنا هذا. لا يا سادة؛ إنها تعليمات المحتسب قبل سبعمئة سنة، في القرون التي نسميها «القرون الوسطى» تقليدًا منا للغربيين ومجاراةً لهم في اصطلاحاتهم.
لقد كانت القرون الوسطى عهودَ تأخر وانحطاط في أوربا، أما في بلادنا فقد كانت عهود ازدهار وحضارة، وهذا النص الذي أنقله لكم شاهد واحد من آلاف الشواهد على ما أقول.
النص من كتاب «الحِسْبَة»، ترون منه كيف أُلزِم العَجّان بأن يلبس مثل ثياب الجرّاحين في المستشفيات في أيامنا، صِدارة بيضاء ضيّقة الكُمَّين، ولثام يغطي الأنف والفم، وعصابة بيضاء تُشَدّ على الجبين، وأعجب من هذه إلزام العجّان بأن يحلق شعر ذراعيه لئلا تسقط منه شعرة في العجين. كما أوجبوا على كل خبّاز أن يتخذ له خاتمًا فيه شارة خاصة يطبع به على كل رغيف يخرج من فرنه، ليكون مسؤولًا عنه إذا كان في دقيقه غش.
وفي «نفح الطبيب» أن الحاكم في الأندلس كان يسعّر الأشياء الضرورية، لا سيّما الخبز واللحم، ويأمر البيّاعين بأن يضعوا عليها أوراقًا بسعرها، ثم يبعث المحتسبُ الولدَ الصغير أو الخادم لاختبار البيّاع، فإن باعه بأكثر من السعر الرسمي استدعاه وعاقبه، فإن عاد أغلق دكّانه.
وفي كتاب «الحسبة» أيضًا نص عن الأطباء، لا يكاد يصدّق القارئ أنه مكتوب في القرن الثاني عشر الميلادي، أيام كانت
1 / 68